أغلبية جزر فرسان خالية تماما من السكان
تهتم كثير من الدول بالمواقع الإستراتيجية البحرية من المضايق، وملتقى البحار، والمياه الإقليمية والموانئ، وأهمها وأعظمها الاهتمام بتنمية الجزر. فالدولة - أي دولة - عندما تهمل تنمية الجزر التابعة لها تدخل نفسها في قضايا دولية هي في غنى عنها، وقد يسعر هذا الإهمال لحروب لا تبقي ولا تذر. فالجزر المهملة تعد بمثابة قنابل بحرية يمكن أن تسبب كوارث اقتصادية، أو أمنية، أو تدخل الدولة نفسها في صراعات على المياه الإقليمية. وها هي دول مجاورة لنا أهملت تنمية جزرها فاستولى عليها الغرباء وادعوا أحقيتهم بها وقاموا باستغلال ثرواتها.
ولقد أدركت بلادنا مبكرا أهمية الجزر فأولتها أهمية قصوى. وحتى تصل الفكرة وتتضح الصورة سنأخذ جزيرة فرسان مثالا لهذا الاهتمام. أول ما قامت به بلادنا منذ عقود هو ربط جزيرة فرسان بسواحل منطقة جازان بوسائل نقل بحرية، وآخرها ما أمر به خادم الحرمين الشريفين إبان زيارته - حفظه الله - لمنطقة جازان من تزويد جزر فرسان بعَبَّارتين فارهتين تنقلان المواطنين والمقيمين مجانا من شواطئ مدينة جازان إلى فرسان وبالعكس. وقد كانت العَبارات القديمة تستغرق نحو أربع ساعات لقطع المسافة بين جازان وفرسان، إلا أن ما أمر به الملك يقطع المسافة ذاتها في ساعة واحدة، ناهيك عن وسائل نقل بحرية أخرى تتعهد بنقل البضائع التجارية والأدوات والمعدات الثقيلة.
وتستحق فرسان منا هذا الاهتمام؛ فهي عبارة عن مجموعة من الجزر - أكثر من 100 جزيرة - تتوسط جنوب البحر الأحمر، وتبعد نحو 40 كيلومترا عند مدينة جازان غربا، ذات موقع استراتيجي مهم وفيها من الموارد الاقتصادية والأماكن الساحلية ما يصعب حصره في مقال كهذا. تبلغ مساحتها الإجمالية ما يقارب 1200 كيلومترمربع، وهي تعادل ضعف مساحة البحرين. وجزيرة فرسان غنية بالموارد الطبيعية والثروة الحيوانية؛ ففيها فئات نادرة من الوعول والغزلان وتمتاز شواطئها بالنقاء والصفاء كنفوس أهلها وأنك لترى أنواع مختلفة من الأسماك بالعين المجرة على مقربة من سطح البحر تشكل لونا بهيا ومنظرا مهيبا يندر وجوده. ويمارس أهل هذه الجزيرة الهادئة عشق قديم توارثته الأجيال. ففي نيسان (أبريل) من كل عام يتأهب الفرسانيون لاستقبال سمك "الحريد" والذي يتجمع على شواطئ خليج "حصيص" يرسم لوحة في منتهى الإبداع، وقد أصبح موسم "الحريد" هذا مهرجانا سياحيا يستقطب الناس من داخل الجزيرة وخارجها وبحضور أمير المنطقة. وجزر فرسان غنية بالمواقع الأثرية من العهد العثماني، ويقع فيها بيت "الجرمن" وهو مبنى يقع على ساحل جزيرة "قُماح" - إحدى جزر فرسان يقطنها نحو 800 نسمة فقط - يقال أن الألمان قاموا بتشييده بهدف استغلاله كمستودع للفحم الحجري لتزويد سفنهم العابرة للبحر الأحمر. أما أهلها فذوو نفوس وضَّاءة، وهمم عالية لا تراهم إلا مبتسمين، متفائلين، طموحين، يجمعهم الشعر العذب وحب الناس ويفرقهم المكر وسوء الخلق.
إلا أن غالبية جزر فرسان خالية تماما من السكان؟ فالجزر التي يسكنها الناس لا تتعدى حسب علمي ثلاث جزر فقط والبقية - أكثر من 95 جزيرة - خالية من السكان، وأمر كهذا قد يتسبب في مشكلات أمنية ويقود إلى صراعات على المياه الإقليمية. فالجزر الخالية قد تكون وكرا للعابثين، ومكانا آمنا للمهربين، وبيتا حصينا للقراصنة والمخربين، ناهيك عن الطموحات الدولية لبعض الدول المجاورة أو المعادية.
ولكي تدب الحياة في الجزر الخالية ينبغي تشييد مطار بقلب الجزيرة الرئيسة، فمن دون ميناء جوي ستبقى غالبية جزر فرسان خالية من السكان، وستظل الجزر الحية بعيدة عنا وهذا البعد يفقدها مكاسب التنمية التي نعيشها ويفقدنا مزايا الاستمتاع بجوها البحري الخلاب وشواطئها الساحلية الجميلة.
كما يلاحظ الزائر لجزيرة فرسان زوارق صغيرة بدائية وخالية من أبسط أدوات السلامة البحرية تنقل الناس والعتاد والبضائع بين الجزر الحية بأسعار باهظة، وإنك لترى الموظفين من الرجال والنساء يتخذون منها وسائل نقل إلى مقر أعمالهم يوميا ذهابا من جزيرة قُمح إلى جزيرة فرسان الأم في الصباح الباكر ويعودون إلى منازلهم عندما يرخي الليل سدوله؛ لذا أرى كحل مؤقت إخراج هذه القوارب المتهالكة من الخدمة واستبدالها بوسائل نقل حديثة تابعة لجهة حكومية على غرار عَبارات جيران - فرسان، تتولى مهمة نقل الموظفين؛ كي تقر أعينهم ويتفرغوا لأداء أعمالهم ويعودا إلى أهلهم بنفوس مطمئنة. ويمكن أيضا ربط جزر فرسان القريبة من بعضها بجسور وطرق برية صناعية كالجسر الذي يربط جزيرة فرسان الأم بجزيرة "السقيد"، أو أخذ تجربة البحرين عندما قامت بردم بعض المسطحات المائية بين بعض الجزر المتقاربة.
وأريد قبل أن أختم أن أتوقف قليلا لأقدم الشكر الجزيل لرجال سلاح الحدود المخلصين الذي تراهم في كل مكان يجوبون الطرق المائية، ويمسحون المناطق الخطرة، ويتواجدون في الأوقات الحرجة، لدرجة أنك ترى طاقم سلاح الحدود لا يفارق الساحة 24 ساعة.
هذه لمحة عن جزر فرسان القابعة في جنوب وسط البحر الأحمر، وهذه بعض الاقتراحات التي قد تخفف عليها وطأة الشعور بالغربة؛ فالأمر يحتاج فقط إلى ربط فرسان بالعالم الخارجي بمطار إقليمي أو دولي وتشجيع الناس على الإقامة الدائمة بفرسان - كل جزر فرسان لا نستثنى منها أحدا.