رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


فما حصدتم فذروه في سنبله

تعلَّم الغرب بعد الأزمة العالمية أهمية الالتزام في السياسة المالية، والتحكم في الدين العام الحكومي؛ لكي يتجنبوا حدوث أزمات اقتصادية أخرى. وفي الواقع، فإن التوسع في الإنفاق المالي الذي شهدته دول أوروبا والولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، ألقى بظلاله على قدرة هذه الدول على التحرك، واستخدام السياسة المالية بشكل فعال لمواجهة تحديات الأزمة المالية. والسبب في ذلك عدم توافر الحيز المالي الكافي والملائم لهذه الدول، بسبب استنفاد كل وسائل حشد الموارد بسبب ارتفاع الإنفاق العام، وبلوغ الدين العام إلى مستويات عالية بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي، وفي الوقت نفسه ارتفاع مستويات الضرائب. هذا الأمر جعل صانع القرار في حيرة من أمره، فإما الاستمرار في إصدار الدين العام، وزيادة تكاليف خدمته، بسبب ارتفاع مستوى هذا الدين من جهة، وزيادة مخاطره من جهة أخرى؛ مما يؤدي إلى ارتفاع سعر الفائدة، أو اللجوء إلى تدابير على جانب الإيرادات لمواجهة تكاليف الإنفاق المرتفعة، من خلال زيادة الضرائب، الأمر الذي سيؤدي إلى انتحار سياسي لكل حكومة تتبنى هذا الخيار.
وإذا لم يكن لدى واضع السياسة خيارات على جانب الإيرادات، فلا بد إذاً من اللجوء إلى تدابير على جانب المصروفات لإعادة التوازن إلى الوضع المالي لموازنة الدولة، ولحساب الدين العام فيها، من خلال الحد من الإنفاق العام، وزيادة كفاءته في الوقت نفسه بالتركيز على تعزيز الإنفاق الرأسمالي الذي يحقق قيمة مضافة للنمو الاقتصادي المستقبلي، والحد من الإعانات العامة وجعلها موجهة للفقراء. خيار صعب، لكن لا بد منه، وقد انتهجته عدد من الحكومات دون تردد عندما ووجهت بخيارات صعبة، تراوحت بين تخفيض تصنيفها الائتماني، أو إعلان عدم قدرتها على سداد فائدة دينها العام. حكومة ديفيد كاميرون البريطانية اتخذت قرارا حازما وتبنت موازنة تقشفية ستستمر على مدى أربع سنوات، على جانبي المصروفات والإيرادات؛ وذلك تجنبا للجوء مؤسسات التصنيف إلى تخفيض تصنيفها الائتماني، ومن ثم مواجهة مصير الحكومات الأخرى التي تأخرت في تنفيذ هذا الأمر. وأقرب مثال على ذلك البرتغال، التي تمت الإطاحة برئيس حكومتها أخيرا بسبب خطة التقشف التي تبناها لاستعادة أوضاع المالية العامة. اليونان مثال تراجيدي على عواقب الإفراط في الإنفاق العام، خصوصا الجاري منه، دون اعتبار للآثار المستقبلية السلبية لذلك، حيث دفعت اليونان الثمن غاليا بإجبارها على تبني خطة تقشفية حادة بناءً على شروط الاتحاد الأوروبي لانتشالها من أزمتها، وسيظل ذلك يؤثر على اقتصادها سنوات عديدة.
الولايات المتحدة تواجه هي الأخرى هذا المصير، فانعدام الحيز المالي لديها جعلها تقف في مواجهة تدهور معدلات البطالة وانحدارها إلى مستويات كبيرة مكتوفة الأيدي، حيث لم يعد لديها مجال لاستخدام السياسة المالية لحفز الاقتصاد. هذا الأمر جعل المستثمرين ينظرون إلى أن الولايات المتحدة قد تواجه مخاطر مالية على المدى المتوسط والبعيد؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعار الفائدة على المدى البعيد، وزيادة الهوة بينها وبين أسعار الفائدة على المدى القصير؛ مما دفع الاحتياطي الفيدرالي إلى استخدام حزمة التيسير الكمي الثانية لخفض أسعار الفائدة على المدى البعيد، لكي لا يؤدي ذلك إلى أن تقوم البنوك بوضع استثماراتها فيها، ومن ثم لا يعود هناك مجال للاستثمار الحقيقي الذي يسهم في زيادة التوظف. ولو كان لدى الولايات المتحدة حيز مالي كاف لاستطاعت استخدامه في تحفيز الاقتصاد، سواءً بخفض الضرائب، أو بزيادة الإنفاق الرأسمالي الذي يسهم في توظيف الكثير من المواطنين، وبذلك استطاعت تجاوز الأزمة المالية وآثارها بأقل قدر من الخسائر.
ماذا نتعلم من ذلك، أن متانة الوضع المالي للدولة هو في مصلحة الجميع؛ فهو يتيح لها التحرك بحفز الاقتصاد عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. وما حزمة القرارات التي تفضَّل بها خادم الحرمين الشريفين أخيرا لدعم مستويات المعيشة للمواطن السعودي، إلا نتيجة للسياسة المالية التي اتبعتها المملكة خلال السنوات الأخيرة والتي أسهمت في تعزيز الحيز المالي للدولة؛ مما أتاح لها التحرك بتعزيز الإنفاق عندما دعت الحاجة إلى ذلك. وهذا يفرض علينا أهمية أخذ ذلك في الاعتبار عندما نسمع مطالبات البعض بالمزيد من الإنفاق العام دون التفكير في عواقب ذلك على المدى المتوسط والبعيد. ولنتذكر المرحلة التي مرت بها المملكة خلال نهاية التسعينيات الميلادية والتي تراجعت الإيرادات وارتفع الدين العام خلالها بشكل كبير جدا؛ مما أضعف البنية العامة للاقتصاد، وأدى إلى تأخر تنفيذ الكثير من المشاريع. نحن الآن نعيش في نعمة الوفرة التي منحنا الله إياها، فلنتعلم من الدرس الذي عشناه سابقا ولنحافظ عليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي