إنتاج النفط خلال الأزمات الأمنية
تنتهج السعودية سياسة إيجابية وبناءة نحو نمو الاقتصاد العالمي والرخاء الإنساني من خلال تلبية احتياجات الاقتصاد العالمي من النفط والغاز بالتوسع المستديم في أنشطة الاستكشاف والإنتاج والتخزين. يتبع ذلك توجيه موارد هذه الأنشطة نحو توليد الطاقة وتحلية المياه وتصنيع المنتجات البتروكيماوية ودعم المعرفة البحثية. تنمو هذه السياسة تحت مظلة الموازنة بين المصالح الاقتصادية وإبقاء النفط مصدرا رئيسا للطاقة عالمياً لأطول فترة ممكنة، وفوق أرضية تحقيق أعلى مردود اقتصادي واجتماعي للمملكة.
سياسة حكيمة تدعونا إلى النظر في سياسات نفطية دولية أخرى بهدف فتح باب المقارنة البينة بين مجموعة من السياسات النفطية المتباينة الأهداف المحلية والمتشابهة الأهداف الدولية في تلبية احتياجات المستهلك في سوق النفط العالمية. من هذه السياسات النفطية الأخرى السياسة النفطية النيجيرية وكيفية التعامل مع حالات عدم الاستقرار الداخلي وانعكاسات ذلك على إمدادات النفط للسوق العالمية.
تعود جذور صناعة النفط النيجيرية إلى مطلع الألفية الماضية عندما منحت الحكومة البريطانية شركة رويال دويتش شل النفطية امتياز التنقيب عن النفط في الأراضي النيجيرية. تطورت العلاقة النيجيرية مع النفط بعد عام 1958 عندما أعلنت الشركة اكتشافات نفطية كبيرة في منطقة دلتا النيجر بشكل أهل المنطقة كي تصبح لاحقا المنطقة الرئيسة لإنتاج النفط النيجيري.
اتجهت توقعات المراقبين الدوليين في تلك الفترة إلى الجزم بتبوء الاقتصاد النيجيري مكانة مرموقة في خريطة العالم الاقتصادية، عطفا على وجود عديد من المقومات الاستراتيجية كالموقع الجغرافي، الثروات الطبيعية، الأراضي الزراعية، والمستوى التعليمي المتقدم للنيجيريين. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن إنجازات اليوم لم ترتق إلى توقعات الأمس عندما انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي من قرابة 690 دولارا أمريكيا عام 1981 إلى 230 دولارا أمريكيا عام 1995، وزادت الديون الخارجية لتلامس سقف الـ 40 مليار دولار أمريكي.
عزيت أسباب تواضع النمو إلى تحديات سياسية طفت على السطح منتصف الستينيات الميلادية من الألفية الماضية. فما إن حصلت نيجيريا على الاستقلال من بريطانيا عام 1961 حتى دخلت في حرب أهلية ضروس وقودها الرئيس ديمغرافية الشعب النيجيري, حيث يفوق تعداد الشعب النيجيري 150 مليون نسمة، مقسمة إلى ما يزيد على 250 طائفة عرقية. شكل تباين توزيع الثروات الطبيعية بين المناطق الجغرافية، وتباين المعتقدات والرواسخ بين طائفة وأخرى، وتباين الولاء الإقليمي لهذه الطوائف بين الكاميرون، تشاد، والنيجر، وقودا كافيا لاستمرار نيران الحرب الأهلية قرابة 20 عاما.
أطفئت نيران الحرب الأهلية مطلع الثمانينيات الميلادية من الألفية الماضية بطريقة غير شرعية, حسب مفهوم أدبيات القانون الدولي، حيث قادت مجموعة من ضباط الجيش انقلابا عسكريا استطاعت من خلاله إنهاء الحرب الأهلية وإحكام قبضتها الحديدية على طوائف الشعب النيجيري كافة.
لم تكن شركة رويال دويتش شل النفطية إبان الحرب الأهلية والحكم العسكري سوى الرابح الأكبر من مزاولة حق الامتياز في استخراج النفط وتكريره في منطقة دلتا النيجر حتى منتصف التسعينيات الميلادية.
من أهم إحصاءات الشركة تصديرها قرابة 50 في المائة من النفط النيجيري. واستحواذ عملياتها النفطية في نيجيريا على قرابة 11 إلى 12 في المائة من مجموع عملياتها الدولية، بصافي ربح يقارب 200 مليون دولار أمريكي سنويا.
تمركزت معظم عمليات الشركة في منطقة دلتا النيجر، حيث تعد المنطقة المنتج الرئيس للنفط منذ عام 1958. وعلى الرغم من أن الشركة استطاعت استخراج ما قيمته قرابة 30 مليار دولار من نفط هذه المنطقة، إلا أن المنطقة ما زالت من أفقر المناطق النيجيرية ويعمل معظم سكان المنطقة في الزراعة.
شكلت جميع هذه الظروف الاقتصادية عداء لدى سكان منطقة دلتا النيجر نحو الشركة, وتطورت حالة العداء بداية التسعينيات الميلادية من الألفية الماضية عندما نشطت في المنطقة جماعة مسلحة بدأت بمهاجمة منشآت الشركة في المنطقة، وتهريب النفط بهدف بيعه في السوق السوداء.
لم يقض على هذه الجماعة المسلحة سوى الجيش النيجيري عندما حاصر الإقليم، وبدأ حملة عسكرية للقضاء على الجماعة المسلحة واعتقال قادتها. وقضي على الجماعة بعد إعدام قائدها وثمانية من معاونيه بعد مجموعة من جلسات المحاكمات العاجلة.
انعكست عمليات الإعدام بالسلب على العلاقات الدولية النيجيرية. فسحب سفراء أمريكا والاتحاد الأوروبي من العاصمة أبوجا، وعلقت المساعدات المالية، وأوقفت معاهدات بيع السلاح، وعلقت عضوية نيجيريا في منظمة دول الكومنولث، وبدأت حملة دولية ضد الحكومة النيجيرية. وعلى الرغم من جميع هذه القرارات المتسارعة، إلا أن اتفاقيات تصدير النفط النيجيري لم تكن ضمن جدول أعمال المقاطعة الدولية. فاستمرت شركة رويال دويتش شل النفطية في استخراج النفط وتصديره من منطقة دلتا النيجر رغم وجود حالات الفلتان الأمني.
واصلت منطقة دلتا النيجر المطالبة بزيادة نصيبها من النفط المستخرج من أراضيها حتى اليوم, لكن بآليات وأساليب مختلفة, حيث تطورت المطالبات من الحصول على زيادة في مخصصات العائدات النفطية إلى المطالبة بالاستقلال الكامل عن نيجيريا عبر حركة استقلال دلتا النيجر.
اتبعت عملية تأسيس الحركة تشكيل مجموعات مسلحة صغيرة من أبناء المنطقة لضرب مصالح شركات النفط الأجنبية العاملة في المنطقة, فتارة تخطف مجموعة من عمال النفط، وتارة تقتل مجموعة أخرى، وتارة تدمر منشأة نفطية، وتارة تعطب أنبوبا نفطيا.
استجابت الحكومة النيجيرية للضغوط منذ مطلع العقد الحالي عندما بدأت برنامج إصلاح اقتصادي شاملا تحت إشراف صندوق النقد الدولي. هدف البرنامج إلى تحقيق النمو والرخاء الوطني، والاستجابة المثلى لمتطلبات أسواق النفط العالمية.
شمل برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل مجموعة من السياسات من أهمها إعادة هيكلة الصناعة النفطية، وتحديث القطاع المصرفي، وتخصيص مجموعة من مصافي تكرير النفط، وإلغاء قرابة 18 مليار دولار من الديون الخارجية عبر نادي باريس.
وعلى الرغم من ظهور بعض بوادر النمو الاقتصادي، إلا أن حالات الفلتان الأمني ما زالت مستمرة. وما زالت صناعة النفط النيجيرية تعمل بأقل من طاقتها الاستيعابية، ورامية بظلال الأزمة على مستويات العرض والطلب والأسعار والعقود الآجلة في أسواق النفط العالمية.
تعد تجربة صناعة النفط النيجيرية من التجارب الدولية في مجال التعرف على انعكاسات السياسات النفطية على تحقيق التنمية المستدامة للاقتصاد الوطني. تحمل التجربة عديدا من التحديات والآفاق في تطوير السياسات النفطية الوطنية وما يرتبط بها من إدارة عائدات النفط، ومنهجية استثماراتها.