بين «البالشت» و«الريال»
من أهم الوظائف الأساسية للبنوك المركزية إصدار وطبع النقد, واستبدال النقود الجديدة بنقود تالفة, وهذه الوظيفة ــ ووظائف أخرى ـــ يقوم بها مصرف مركزي في الصين في القرن الثامن الهجري, أي قبل أكثر من 600 عام, فقديما جسد ابن بطوطة (ت779هـ) في كتابه ''الرحلة'' واقع المصرف أو البنك المركزي في ذلك الوقت, فقال: ''ذكر دراهم الكاغد التي بها يبيعون ويشترون: وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم, إنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد، كل قطعة منها بقدر الكف، مطبوعة بطابع السلطان، وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها، بالشت (بلام مكسورة)، وهو بمعنى الدينار عندنا. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا، فأخذ عوضها جدداً, ودفع تلك. ولا يعطى على ذلك أجرة ولا سواها؛ لأن الذين يتولون عملها لهم الأرزاق الجارية من قبل السلطان، وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء. وإذا مضى الإنسان إلى السوق بدرهم فضة أو دينار يريد شراء شيء، لم يؤخذ منه، ولا يلتفت إليه، حتى يصرفه بالبالشت، ويشتري به ما أراد''. أهـ.
ومن خلال هذا النص التاريخي نلاحظ الآتي:
1- أنه توجد لدى الصين عملة مصنوعة من الورق المسماة ''الكاغد'', فالأوراق النقدية ليست حديثة النشأة.
2- أن هذه الورقة النقدية لها اسم محدد هو: ''بالشت'' كالأوراق النقدية المسماة اليوم ''الريال'' و''الجنيه'' و''الدولار''. أما الدينار الذي أشار إليه ابن بطوطة فهو عملة معدنية وجدت قبل عصره بمئات السنين, حيث جاء ذكره في أحاديث نبوية شريفة, وربما كان موجودا عند الرومان واليونانيين قبل آلاف السنين.
3- أن أهل الصين في ذلك الوقت كان لديهم استقلال في إصدار العملة, وفي التعامل بها, فلم تتكئ الدولة آنذاك على العملات المتداولة في ذلك الوقت كالدينار الذي كان عملة ذات حظوة في تلك الحقبة؛ إذ ينتمي إلى فصيلة الذهب في أغلب الظن. وهكذا الريال فقد أصبح عملة التداول في بلادنا, وقد كانت العملة المستخدمة بداية نشوء الدولة السعودية الثالثة هي العملة الروبية القادمة من الهند مرورا بالأحساء, والجنيه الإنجليزي القادم من بريطانيا والريال المجيدي القادم من الدولة العثمانية مرورا بالحجاز..
4- أن الورقة النقدية ''البالشت'' كانت بحجم ''قدر الكف'' كما ذكر ابن بطوطة, أي بحجم الورقة النقدية الموجودة اليوم!
5- أن الورقة النقدية ''البالشت'' مطبوعة بطابع السلطان، كما هو واقع اليوم, فكل ورقة نقدية مطبوعة بحروف وصور معبرة عن الدولة المصدرة, وحاكمها, ومواصفات أخرى تختلف بين دولة وأخرى.
6- أن الورقة النقدية الواحدة مكونة من عدة فئات, حيث كان ''البالشت'' مكوناً من 25 قطعة, كالريال السعودي المكون من 20 قرشا, والدولار الأمريكي المكون من 100 سنت.. إلخ
7- أن تمزق الورقة النقدية ''البالشت'' يسمح بتبديلها لدى الجهة المصدرة, كما هو واقع اليوم؛ إذ يقوم المصرف المركزي بأخذ الأوراق النقدية الممزقة أو التي أصيبت بتلف ما, واستبدالها بأوراق جديدة, وفق ضوابط محددة, كما هو منصوص عليه في نظم البنوك المركزية, ومنها مؤسسة النقد.
8- أن هذا النص التاريخي يثبت أن لدى الدول في تلك الحقبة دورا أو مؤسسات خاصة بالإصدار, وتسمى في بلاد ابن بطوطة ''دار السكة'', واليوم تدعى بـ''مصارف الإصدار, أو بالمصارف أو البنوك المركزية'', وفي المملكة بـ ''مؤسسة النقد''.
9- أن تلك الدار المصدرة لـ ''البالشت'' قد وضع لها إدارة, مكونة من موظفين تجرى لهم أرزاق ''أي مرتبات'' من الدولة, ويرأسها أحد رجالات الدولة, كما هو اليوم في كل دولة.
10- وأخيرا: قد يستفاد من هذا النص بأن ''البالشت'' كان ورقة نقدية يحظى بمستوى من القوة؛ حيث لم يقبل غيره من النقود ــ كالدينار والدرهم ــ كأداة للتبادل, ما يدل ــ ربماــ أنه ذو قوة شرائية جيدة في ذلك الوقت, وقد يكون هناك مبرر آخر لا نعلمه.
هذا مما يمكن أن نستخلصه من هذا النص التاريخي, ولا يعني أن هذا التقدم الحضاري لإصدار النقود في القرن الثامن الهجري أنه لم يسبقه تنظيم مسبق للإصدار في العصور المتقدمة, فعبد الملك بن مروان طبع أول سكة ذات طابع إسلامي في القرن الأول الهجري, وقبل عصر النبوة كانت الدنانير والدراهم من العملات المسكوكة المتداولة, ولا شك أن لها تنظيما معينا, وقد يتبين هذا بالتنقيب في المصادر التاريخية المطبوعة والمخطوطة.
ومعلوم أن من أبرز مهام المصارف أو البنوك المركزية العمل على استقرار سعر العملة المحلية, ومراقبة كمية عرض النقود, وقديما كان للعلامة ابن القيم ـــ رحمه الله ــ كلام قيم في هذا الخصوص, حيث أكد ضرورة المحافظة على وظيفة النقد ـــ كونه مقياساً للقيمة ومستودعاً لها ـــ فتجب حمايته من تلاعب المتاجرين فيه ''ما يسمى اليوم بالمضاربين'', حيث قال: ''ويمنع من إفساد نقد الناس وتغييره, ويمنع من جعل النقود متجراً, فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله. بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال, يتجر بها, ولا يتجر فيها..''أهـ. وهذا فيه إشارة واضحة إلى خطر العبث في كمية عرض النقود, من خلال المتاجرة فيها, فالنقد هو أداة لتبادل السلع والخدمات, ولا يزال بعض النابهين من رجالات الاقتصاد يحذرون من توليد النقد من النقد, وله صور عديدة ـــ يمكن بسطها في مقال آخر ــ وما ذكره الإمام ابن القيم تبع فيه شيخه ابن تيمية ــ رحمه الله ـــ حيث قال ''.. ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم, ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً، بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً وضرب لهم فلوساً أخرى أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها, فيظلمهم فيها, وظلمهم فيها بصرفها بأغلى من سعرها..'', ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية, فقد قام معمر القذافي ـــ أهلكه الله ـــ في منتصف التسعينيات الهجرية بعملية قذرة, أراد منها الكشف عن ثروات شعبه, والوقيعة بمن أراد الوقيعة به, حيث أعلن وقتها أن العملة الليبية ستلغى خلال أسبوع واحد, فاصطف الناس بأوراقهم النقدية في طوابير طويلة تصل إلى نصف كيلو متر, بعضهم يحمل أمواله في صندوق, وبعضهم في كيس كبير, حتى إذا وصلوا إلى الموظف المختص, طلب منهم وثائق محددة ليست بحوزة كثير منهم, فمن لم تكن لديه الوثائق اللازمة لم يسجل له الموظف إلا ألف دينار من العملة الجديدة, مما اضطر الناس إلى حرق أموالهم؛ لئلا يستفيد منها هذا الظالم دون مقابل! وقد حدث بهذه الواقعة في قناة فضائية أحد الليبيين الذي شهد هذه المأساة, وهو الشيخ الدكتور سليمان البيرة.
إن البنوك المركزية في العالم تقوم بوظائف متعددة تجاه النقد, فمنها المباح كالتحكم في قدر احتياطي السيولة الذي يحتفظ به البنك في خزائنه, والتحكم في قدر الوديعة النظامية الذي يحتفظ بها في خزانة البنك المركزي, وذلك من خلال رفع سقف الاحتياطي والوديعة أو تخفيضها, ومنها ما هو محظور, كما نبه إلى ذلك غير واحد من المختصين, ومنهم الدكتور محمد عمر شابرا في كتابه القيم ''نحو نظام نقدي عادل'' وهو من الكتاب المتخصصين في مجال السياسة النقدية, وقد عمل لأكثر من 18 عاما كمستشار في مؤسسة النقد العربي السعودي, وحصل بكتابه هذا على جائزة الملك فيصل العالمية, وقد استحقها بجدارة.