الاستثمار في الطاقة المتجددة ليس رفاهية.. بل ضرورة
لقد حان الوقت الذي يُحتم علينا البدء في استثمار جزء مُناسب من فائض الميزانية للدخول في عالم مصادر توليد الطاقة المتجددة، ليس فقط للحفاظ على مركزنا كمصدرين رئيسين للطاقة؛ بل لأننا في حاجة إلى ما يُساعدنا على تخفيف الاعتماد الكلي على المصادر النفطية القابلة للنضوب، بصرف النظر عن توقيت بداية انخفاض الإنتاج. نحن الآن نستهلك محليا أكثر من مليوني برميل مُكافئ في اليوم الواحد من النفط الخام والغاز والمشتقات النفطية التي تُباع بأسعار مُخفضة إلى حد كبير من أجل رفاهية المواطن، ونسبة كبيرة من هذه الكمية تُستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية. وما يزيد أهمية إيجاد مصادر جديدة لتوليد الطاقة، النسبة العالية لزيادة استهلاك الوقود التي وصلت إلى 8 في المائة سنويا. وعبَّر أكثر من مسؤول عن تخوفهم من أن نسبة ارتفاع الاستهلاك المحلي من الطاقة سيؤثر سلبا في كميات السوائل النفطية المُعدَّة للتصدير، وهو ما سينعكس أثره على مستقبل الدخل العام. ونحن على يقين من أن استثمار جزء يسير من دخلنا اليوم من أجل البدء في إنشاء البنية التحتية لمصادر الطاقة المتجددة سيكون عائده الاقتصادي أفضل من كثير من مجالات الاستثمار التقليدية الأخرى. فإذا اخترنا مصادر الطاقة الشمسية، وهو الاحتمال الأقرب للصواب، فستشهد البلاد - بإذن الله - ولادة صناعة جديدة متكاملة تُغذِّي مرافق توليد الطاقة من مواد محلية وتُنشئ فرصا كثيرة للتوظيف نحن في أمس الحاجة إليها.
ولدينا أكثر من خيار لأي اتجاه نوجّه إليه استثماراتنا الخاصة بتوليد الطاقة المتجددة، منها الطاقة الذرية وحركة الرياح والطاقة الشمسية. ولعله من المناسب أن نذكر أن عملية توليد الطاقة من المفاعلات الذرية لا يمكن أن تصنَّف مع مصادر الطاقة المتجددة، لسبب بسيط، وهو أن الوقود المستخدم في عملية التوليد هو عنصر اليورانيوم القابل للنضوب خلال عدة عقود من الزمن. ومع ذلك، فمن الممكن أن يكون خياراً مقبولا ولو لفترة تراوح بين 50 و60 عاما، كأبعد حد. لكن العقبة الرئيسة التي ستقف عثرة أمام الاستثمار في الطاقة الذرية في بلدان الخليج هي التكلفة (الكلية) العالية وعدم وجود أيدٍ عاملة وطنية مُتخصصة ومُدرَّبة، وهو ما يعني ضرورة اعتمادنا على العمالة الأجنبية لتشغيلها وصيانتها لعقود طويلة، إضافة إلى كون منشآتها هدفا سهلا للتخريب الذي أصبح موضة العصر وخطرا مُحتملا يهدد سلامة البشر، لو - لا قدر الله - أصابها خلل ما. وتكلفة بناء المرافق النووية ليست فقط في عملية الإنشاء وقيمة المواد التي تُروِّج لها الشركات المتخصصة في هذا المجال، بل هناك تكاليف إضافية كثيرة لا تظهر مع تقديم عقد الإنشاء. فبالنسبة لنا في الخليج، علينا أن نحسب تكاليف التشغيل والصيانة التي ستقوم بها جهات أجنبية بأسعار خيالية، إلى جانب أن ربط تشغيل مرفق حيوي بأيد غير وطنية يوجب الحيطة والحذر. والعامل المهم الذي غالباً ما يغفل عنه المخططون في بداية المشروع هو التكلفة العالية ''الخفية'' التي تتحملها خزانة الدولة في سبيل حماية المنشآت النووية من التخريب، وتكاليف إزالة معدات المنشأة بعد انقضاء عمر التشغيل وتنظيف الموقع من التلوث الإشعاعي والتخلص من النفايات الذرية. وهناك احتمال ارتفاع سعر عنصر اليورانيوم خلال السنوات القادمة إلى مستويات عالية بسبب قرب نضوبه وزيادة الطلب عليه. ولذلك فمن الأفضل ألا نستعجل في اختيار الطاقة النووية قبل أن نمعن في دراسة جدواها الاقتصادية الشاملة. وهذا لا يمنع من أن نبدأ من الآن في اختيار وتدريب عدد كبير من الكوادر الوطنية في مجالات استخدام التفاعل الذري والطاقة النووية. أما الطاقة المتولدة من حركة الرياح فهي لا تُشكل إلا نسبة صغيرة من مجموع استهلاكنا للطاقة الكهربائية؛ ولذلك فليس لها أهمية كبيرة.
يبقى أملنا أن يكون الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة محصورا في مصادر الطاقة الشمسية ''النظيفة''، التي - بقدرة الله - لن تنضب. وهي المصدر الوحيد بين المصادر الأخرى، الذي يُجمع المتخصصون في مصادر الطاقة على أن تكلفة بناء مرافقها في المملكة منافسة لمعظم مصادر الطاقة الأخرى، وفي الوقت نفسه فستتجه مع مرور الوقت نحو الانخفاض نتيجة لتوافر وسهولة تصنيع موادها محليا, إلى جانب احتمال تطوير تقنيتها إلى الأفضل. ولو عملنا مقارنة بأي مصدر آخر للطاقة المتجددة، فلن نجد أنسب لنا من مصدر جميع مكوناته موجودة في بلادنا. فهذا يجعلنا مُكتفين ذاتيا ولن نكون في حاجة إلى استيرادها من الخارج. ولا ننسى أننا هنا نتحدث عن توليد الطاقة الكهربائية التي أصبحت لا غنى لنا عنها، بل إن وجودها لا يقل أهمية عن حاجتنا إلى الهواء. كما نرجو ألا نقلل من أهمية النواحي الإيجابية التي ترتبط بمرافق الطاقة الشمسية، وهي توفير مئات الألوف من الوظائف للشباب السعودي. وهذا عكس مصادر الطاقة الأخرى التي تعتمد اعتمادا شبه كلي على العنصر الأجنبي.
وعلى الرغم من حاجتنا اليوم قبل غد إلى بناء مرافق جديدة للطاقة الشمسية حتى نستفيد منها ونكسب الخبرة، فإن الكثيرين منا لا يزالون يعتقدون أن تكلفتها في هذا الوقت المبكِّر في نظرهم ستكون أعلى من تكلفة المصادر الأخرى، وهو ظن يُخالف الواقع. لكن هذه النظرة، بطبيعة الحال، لها عندهم ما يُبررها. فمعظم ما يُكتب ويُنشر عن مقدار تكلفة الوحدة الكهربائية من الطاقة الشمسية مبني على المعدل العالمي، الذي عادة يفوق بكثير مقدار التكلفة في بلادنا ذات الشمس الساطعة. ومن منطق آخر، لدينا من يُقارنون تكلفة مصادر الطاقة الشمسية مع تكلفة الوقود النفطي الذي تستخدمه شركة الكهرباء بسعره المُخفَّض، وهذا غير مقبول وغير منطقي. فالمفروض، حتى تكون المقارنة حقيقية وعادلة وعملية، أن نقارن الأسعار الفعلية لمصادر الطاقة الشمسية بأسعار النفط العالمية؛ لأن أي توفير من كميات الوقود النفطي سيُباع بالأسعار المعمول بها في السوق الدولية، وهي أضعاف السعر المُخفض. فهل يجوز لنا أن نبني دراسات اقتصادية مهمة بمقارنة غير عادلة؟ وإذا نحن لم نتحرَّ الدقة وظللنا نخدع أنفسنا، فسنجد بعد حين أننا فقدنا عنصر الوقت وعنصر سهولة التمويل، وذلك لن يزيد خططنا المستقبلية إلا إرباكا. والأسوأ هو أن ننتظر حتى نستنفد معظم ثروتنا ويقل دخلنا ويتوقف فائض الميزانية، وربما نعود مرة أخرى، لا قدر الله، إلى ''سيناريو'' العجز في ميزانية الدولة. وتحت تلك الظروف لن يكون حينئذ في مقدورنا الحصول على تمويل للطاقة المتجددة من دون التفريط في واجبات أخرى مهمة.
ولنضرب مثلا بسيطا على مدى التقدم الهائل الذي خطته صناعة مصادر الطاقة الشمسية خلال سنوات قليلة، فيما يتعلق بتكلفة إنشاء مرافق توليد الطاقة من خلايا الكهرضوئية وتحويلها مباشرة إلى تيار كهربائي. فقد كان سعر تكلفة الوحدة (كيلو وات ساعة) منذ أكثر من خمس سنوات لا يقل عن 35 سنتا أمريكيا. ووصل معدل السعر العالمي اليوم إلى أقل من 25 سنتا. أما بالنسبة للمملكة؛ نظرا لسطوع الشمس معظم أيام السنة، فنستطيع الحصول على عقود لبناء مرافق توليد الطاقة الشمسية بأقل من 20 سنتا لوحدة القياس آنفة الذكر، وهي مرشحة للانخفاض إلى مستوى أدنى مع مرور الوقت. وهذه التكلفة تنافس التكلفة الحقيقية للسوائل النفطية عند الأسعار العالمية السائدة اليوم. ولدينا يقين بأن أسعار النفط ستستمر في الارتفاع عن مستواها الحالي، فتصبح مصادر الطاقة الشمسية أكثر جاذبية.
ولعل أهم ما يُشغل البال خلال هذه الفترة الانتقالية، هو من الذي سيقوم بتمويل وإنشاء مرافق توليد الطاقة المتجددة؟ فوزارة المالية الموقرة تملك المال، لكنها لا تملك القرار. وشركة الكهرباء ''المُدللة'' لن تتحرك وهي تتسلم الوقود الحالي مقابل أسعار زهيدة لا تُمثل إلا جزءا يسيرا من القيمة العالمية. أما رجال الأعمال في بلادنا فمُغيبون عن الاستثمار في مثل هذه المشاريع الحيوية، على الرغم من ضمان جودة مردودها. ونحن نقول اللهم اكتب لهذه البلاد وأهلها ما فيه خير الدنيا والآخرة.