تركيا أكبر من أن تستجدي إسرائيل
تُلوِّح الحكومة التركية هذه الأيام برغبتها في سماع إعلان اعتذار من إسرائيل عن هجومها الغادر على سفينة الحرية التركية في أعالي البحار العام الماضي، وقتل للأخيرة تسعة من رعايا تركيا بدم بارد. ونحن نعتقد أن تركيا العظيمة، ذات التاريخ العريق، أكبر من أن تستجدي اعتذاراً من دولة الغدر والعدوان. وعذر تركيا من وراء هذا الطلب أنها تود أن تُعيد علاقاتها ''الحميمة '' القديمة مع إسرائيل! والمفروض والأقرب للمنطق هو أن تستجدي إسرائيل من الحكومة التركية أن تغفر لها غلطتها وتُقدم لتركيا أكثر من اعتذار واحد، لأن الدولة الصهيونية هي في الدرجة الأولى المستفيدة من إعادة العلاقات الإسرائيلية التركية إلى سابق عهدها. أما تركيا فليست لديها حاجة مُلحَّة لعودة العلاقات بينهما في الوقت الحاضر. وقادة إسرائيل الحاليون ليسوا أهلاً للمصالحة، بينما تصرفاتهم وأفعالهم تتسم بالوقاحة والاستكبار. ويكفي ما سمعناه منذ أيام عدة مضت من وزير خارجية الكيان الصهيوني المتعجرف أفيغدور ليبرمان، حول رفضه تقديم أي نوع من الاعتذار لتركيا. وأضاف قائلاً ''فض فاه'' أن على الحكومة التركية أن تُقدم لنا الاعتذار عن عدوانها على إسرائيل! وكان من الممكن أن يحترم هذا المخلوق نفسه ومركزه ويكون أكثر دبلوماسية في تصريحه المعبِّر عن قمة الغطرسة وعدم احترام مَنْ هم أفضل وأكرم منه. وأي عدوان يتحدث عنه ليبرمان؟ إنهم مجرد مواطنين أتراك لا يحملون أي صفة رسمية، إلا حبهم لفعل الخير. وقد حاول بنيامين نتنياهو أن يُلطف من جو التصريح غير المريح بقوله إن ليبرمان يُعبر عن رأيه الخاص، ولا يُمثل الموقف الرسمي لإسرائيل. وبطبيعة الحال، فلم يكن لتدخل نتنياهو أي تأثير إيجابي بالنسبة لجوهر القضية؛ لأنه لم يتخذ أي إجراءات من شأنها أن تُؤدي إلى إصدار اعتذار رسمي يُرضي هذا المطلب البسيط من تركيا. ولو كنت مكان هذا الرجل العظيم، رجب أردغان، لما طلبت ولا قبلت أي نوع من الاعتذار عن ذلك الجرم الشنيع الذي ارتكبته في ظلمة الليل العصابة الصهيونية. لقد داست إسرائيل بأقدام قذرة على كل القوانين والأعراف الدولية وعلى حرمة الإنسان، وليس من عادتها أنها تعترف بخطئها أو تُقدم اعتذاراً لأحد، فهي بطبيعتها دولة مُتسلطة وتتصرف بكل صفاقة وعنف تحت الحماية الأمريكية.
وتركيا اليوم ليست تركيا الأمس. فقد كانت بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وإلى عهد قريب، تسير وفق الرغبات الأمريكية والأوروبية، وهو ما قادها إلى إقامة علاقات ودية وحميمة مع دولة العدوان منذ إعلانها الاستقلال من جانب واحد في عام 1948. ولأن تركيا دولة إسلامية كبرى، فقد حرصت الدولة الصهيونية كل الحرص على أن تظل الدولتان حليفتين؛ لأنها هي المستفيدة ''إعلامياً'' من تطور العلاقات بينهما. ولكن دولة الغدر لم تراعِ لتركيا ذلك الفضل الذي كان سبباً من أسباب برود العلاقة بين الأخيرة والدول العربية خلال سنوات ازدهار مُنظرو القومية العربية. ولا يُستبعد أن الحكومات المتعاقبة في تركيا، قبل عهد رجب أردغان الزاهر، كانت تحاول اتخاذ العلاقات الودية مع إسرائيل كوسيلة للتقرب من الاتحاد الأوروبي الذي كانت، وربما لا تزال، تود قبولها ضمن مجموعته. وكان من الممكن لإسرائيل في تلك الليلة المشؤومة، عند ما كانت سفينة الحرية تقترب من شواطئ غزة، أن تكون أكثر عقلانية وتتجنب حدوث المجزرة الدموية بحق الناشطين الأتراك الأبرياء دون أي مبرر على الإطلاق، وبدلا من المواجهة قادت السفينة إلى أحد موانئها القريبة. ولكن هيهات أن يُغيِّر اليهود طباعهم الشريرة، أو أن يُحاولوا مراعاة شعور صديق وفيٍّ؛ لأنهم يعدون أنفسهم وقضيتهم فوق الجميع، ويحق لهم ذلك ما دام أن أمريكا والدول الغربية بوجه عام ترزح تحت تأثير دعاية الصهيونية العالمية لمصلحة الدولة العبرية.
إسرائيل، منذ أن استولت على الأراضي الفلسطينية وتشريد معظم أهل فلسطين قبل 60 عاماً، وهي تعيث فساداً في الأراضي المحتلة، تُقتل الرجال والنساء والأطفال، وتقطِّع الأشجار، وتبني مئات المستوطنات تحت سمع وبصر العالم الذي لا يُحرك ساكناً. ولا يمضي يوم أو يومان إلا وتسمع عن مقتل أحد أفراد الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، تتصيدهم كالعصافير الواحد تلو الآخر. والغريب أن هذه الأعمال الشنيعة وغير الإنسانية المتواصلة لم تثر حفيظة إخواننا الفلسطينيين، وعلى وجه الخصوص زعماء الفصائل وما أدراك ما الفصائل، الذين لا هَمَّ لهم إلا تكديس الثروات، بينما قضيتهم تغتالها اليد الآثمة نهاراً جهاراً، وهم في قصورهم مُنعَّمون. الشعب الفلسطيني لا يريد منكم أكثر من استقالة جماعية تُريحكم وتريحون الشرفاء من أبناء شعبكم. ولم يشهد التاريخ أمة أكثر انقساماً من الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، ولا أطول حروبا فيما بين فصائله المختلفة خلال 60 عاماً. فإلى متى يا أحفاد الجبارين ستظلون نائمين ولقضيتكم تاركين؟ دعونا من الـ50 عاماً التي مضت بعد قيام الحركة الصهيونية بالاستيلاء على أرضكم وممتلكاتكم، ما الذي أنجزتموه خلال السنوات العشر الماضية، في الوقت الذي تكاد خلاله العصابة اليهودية المتطرفة أن تمسحكم من الوجود؟ بالأمس القريب، كنا نشاهد وعلى الهواء مباشرة المستوطنين اليهود بمظهرهم التقليدي المقزز وهم يطردون إخوانكم في مدينة القدس من بيوتهم، ويرمون بأثاثهم وحاجياتهم في الشارع أمام الملأ، في مشهد تذوب له القلوب. والمستوطنون الأنجاس المُستَورَدون من الغرب يدخلون إلى البيوت بكل وقاحة وبرود. ولم ينتهِ ذلك الموقف المؤثر عند إخراجهم ورميهم مع أطفالهم في الشارع، فقد ذكر الإعلامي المُعلق على المشهد أن أولئك المساكين من النساء والأطفال يتحملون أيضا أجرة تحميل ونقل أثاثهم من بيوتهم التي طُردوا منها إلى الشارع! هذه هي إنسانية ''شعب الله المختار''، أو بالأحرى أعداء الله.
ونرجو ألا يلومنَّ أحد الرجل العظيم ذا القلب الكبير والسياسي المحنك رجب أردغان على غيرته ومغامرته في تحديه للأخطبوط الصهيوني، بينما أصحاب القضية وإخوانهم عاجزون عن اتخاذ أي إجراءات أكثر صرامة من ''الكليشة المعروفة'' التنديد والاستنكار الممليْن! فدعونا ندعو لأردغان وللأمة التركية الجارَة الحبيبة والصديقة بدوام العزة والازدهار، فعزها عز للإسلام والمسلمين. وقد كان حلم تركيا وجُلّ اهتمامها وطموحها إلى عهد قريب هو الانضمام إلى الوحدة الأوروبية. ورغم أنها قدمت لهم الكثير من التنازلات ووضعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أفضل من كثير من الدول التي انضمت أخيرا إلى الاتحاد، إلا أن طلبها كان دائما يُقابل بالرفض من قِبل بعض أعضاء المجموعة الأوروبية لأسباب أقرب ما تكون للعنصرية. وقد يكون من الأفضل لمستقبل تركيا الاقتصادي والاجتماعي والديني والثقافي ألا تنضم إلى الوحدة الأوروبية، وتوسع بدلاً عن ذلك علاقاتها في جميع الميادين مع دول الشرق الأوسط وباقي الدول الإسلامية. فخير لها أن تكون بمنزلة الرأس مع هذه الدول على أن تصبح في المؤخرة لو تم انضمامها إلى الدول الأوروبية.