رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


نحن والشرق.. !

<a href="mailto:[email protected]">mdukair@yahoo.com</a>

عندما وصل الأدميرال "بيري" في منتصف القرن التاسع عشر إلى اليابان ودكها ببعض قنابل المدافع أجبرها على مباشرة التجارة مع بقية دول العالم. كانت تلك الفترة أوج عهد الاستعمار، ولو لم تتطور اليابان بسرعة، لأصبحت إحدى مستعمرات القوى الاستعمارية الغربية آنذاك.
أدرك اليابانيون منذ وقت مبكر أن التطور الاقتصادي كان جزءا من الدفاع القومي. والواقع أنه لا يمكن بناء جيش قوي دون اقتصاد حديث، ولا يمكن بناء اقتصاد حديث دون نظام تعليمي متطور يمنح الاقتصاد القدرة على تحويل المواد الأولية إلى سلع مدنية أو عسكرية. ومن يتأمل التاريخ يجد أن الاستراتيجيات الاقتصادية لبعض الدول الصناعية كانت جزءا من الاستراتيجيات العسكرية التي يعتمد عليها لضمان الاستقلال السياسي.
بعد انهيار الأنظمة الاقتصادية الشمولية في تسعينيات القرن العشرين الميلادي أصبحت المنافسة العالمية بين نموذجين، نموذج أنجلوسكسوني (بريطاني/ أمريكي) يُعلى من شأن الحرية الاقتصادية المعتمد على المبادرات الفردية، ونموذج ألماني/ ياباني يتعمد الحرية الاقتصادية التي تتسم بطابع المشاركة الجماعية كطريق للنجاح الاقتصادي.
في النموذج الأنجلوسكسوني يتولى الأفراد والمؤسسات الخاصة وضع استراتيجياتهم الاقتصادية التي تضمن لهم النجاح، متخذين من الأرباح غاية تأخذهم لهدفهم النهائي وهو تعظيم الاستهلاك!
في حين تعتمد الفلسفة اليابانية على إقامة صناعات تتمكن من الغزو الاستراتيجي للأسواق أكثر من هدف تحقيق أقصى الأرباح للمؤسسة. وعلى حد قول الاقتصادي الأمريكي الشهير "لستر ثرو": بينما يؤمن الأمريكيون بما يسمى "علم الاقتصاد الاستهلاكي"، يؤمن اليابانيون بما يسمى "علم الاقتصاد الإنتاجي". كما تتبنى اليابان العمل الجماعي بدلا من العمل الفردي، فالفرد في المؤسسات اليابانية ينضم إلى فريق عمل، ونجاحه هو في نجاح الفريق الذي يعمل ضمنه. والعامل الياباني مقدم على غيره عند وضع استراتيجيات العمل في المؤسسات اليابانية، يليه الزبون أو العميل، بينما يأتي المُلاك من حملة الأسهم في المرتبة الثالثة، فقد يُضحى بالأرباح للحفاظ على الأجور أو العمالة.
وتضطلع المؤسسات في اليابان وألمانيا بمسؤولية توفير الأموال اللازمة لتحسين وتطوير مهارات القوى العاملة لديها، في حين تعتبر قضية تنمية المهارات مسؤولية فردية في بريطانيا وأمريكا.
من ناحية أخرى، تقوم المؤسسات المصرفية العملاقة كبنك دوتشي في ألمانيا ومجموعة ميتسوي في اليابان بدور استراتيجي في النشاط الاقتصادي يتعدى مجرد التمويل إلى المساهمة في تملك المشاريع الاستراتيجية والمشاركة في وضع الخطط والسياسات التطويرية، بحيث تكون الشركات متداخلة ومتشابكة ماليا وتعمل معا لتقوى نشاطات كل منهما الآخر، فالمؤسسات الكبرى في اليابان مثل: "متسوبيشي"، "سوميتومو"، و"فوجى" تتكون من مجموعات متكاملة من الموردين والمنتجين وبائعي التجزئة، وكذا الأمر في ألمانيا فبنك دوتشي يمتلك نحو 25 إلى 30 في المائة في عدد من كبريات الشركات الصناعية والتجارية كشركة دايملر - بنز، وفيليب هولزمان للإنشاءات وغيرها.
وفى حين لا تقوم الحكومة بدور في تمويل الاستثمارات في الولايات المتحدة، تقوم الحكومات في بعض الدول الأوربية واليابان بدور مهم في النمو الاقتصادي، خاصة في مجال دعم وتمويل المؤسسات الصناعية، فالحكومات الأوروبية تنفق ما بين 2 في المائة إلى 5 في المائة من الناتج القومي في مساعدة صناعاتها. وفي إسبانيا، التي كانت أكثر الدول الأوروبية نموا في ثمانينيات القرن العشرين، ساهمت المؤسسات الإنتاجية الحكومية بنصف الناتج القومي، بينما ساهمت المؤسسات الحكومية في كل من فرنسا وإيطاليا بثلث الناتج القومي. وبعض الاستثمارات العامة في أوروبا مثل صناعات طائرات الإيرباص، ليست مسائل سياسية قابلة للنقاش. وفي اليابان كانت استراتيجية صناعة الرقائق الإلكترونية مشابهة لاستراتيجية صناعة الطائرات الأوروبية من حيث ضخامة التمويل والدعم الحكومي، مما أدى إلى نجاح اليابانيين في كسر سيطرة المؤسسات الأمريكية لهذه الصناعة.
كانت اليابان هي المنافس الوحيد من الشرق للدول الصناعية الغربية، واليوم انضم إلى حلبة المنافسة الدولية عدد متزايد من الدول الآسيوية تتقدمهم الصين والهند. ولولا الأعداد الهائلة من السكان في هاتين الدولتين لكان لهما تصنيف متقدم بين الدول الكبرى من حيث مستوى الناتج الفردي، لكن من الثابت أن استمرار تحقيقها لمعدلات نمو اقتصادي عالية سيضعهما في مراتب متقدمة جدا مع منتصف القرن الحالي.
هناك مجالات واسعة للتعاون بيننا وبين الشرق. ولهذا تأتى الاتصالات والزيارات الرسمية السعودية للدول الآسيوية الناهضة لتدعيم مستقبل هذا التعاون من خلال بناء شراكة استراتيجية بعيدة المدى. وستكون هناك دوافع قوية لدى اليابانيين لتطوير هذا التعاون، نظرا لأن الميزان التجاري بيننا وبين اليابان يميل إلى صالحنا، فعلى الرغم من وارداتنا الكبيرة من اليابان (نحو 14 مليار ريال) إلا أن قيمة صادراتنا النفطية والبتروكيماوية إليهم أكبر (نحو 49 مليار ريال)، لكن بما أن المملكة مصدر رئيس للنفط، وتملك سوقا هو الأكبر في المنطقة، وهو في توسع مستمر، فإن اليابان تأمل أن تستفيد منه لتحسين ميزانها التجاري معنا. بينما نطمح نحن إلى زيادة حجم الاستثمارات اليابانية في اقتصادنا وزيادة حجم التعاون في مجال نقل التقنية، وإقامة مشاريع البنية الأساسية كمشاريع السكك الحديدية والمشاريع والبتروكيماوية.
لكن الاستفادة التي تعلو كل استفادة، هي نجاحنا في دراسة تلك التجارب الناهضة واللافتة، واقتباس كل ما يمكن أن يؤدي إلى بناء اقتصاد وطني قوي ومتنوع. وفي تصوري أن تجربة النظام التعليمي الذي قاد الدول الآسيوية إلى هذا النجاح الاقتصادي تستحق منا عناية خاصة، لأنها السبيل الحقيقي الذي يمكن أن يجعل لنا موقعا بين الأمم في القرن الحالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي