رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هل فكرت في الانتحار؟

أصدرت إدارة التخطيط والإحصاء في وزارة الداخلية قبل عشرة أيام كتابها الإحصائي الذي يحوي بيانات وإحصائيات ثرية وذات مصداقية عالية, وبها قدر كبير من الشفافية وتقوم صحفنا المحلية بنشر مقتطفات منه بين الوقت والآخر, ويتم التعليق عليها وتفسير نتائجها من قبل بعض المتخصصين.
ومن أبرز الحالات التي تم نشرها ظاهرة تنامي حالات الانتحار بين السعوديين، حيث بين الكتاب الإحصائي أن عدد حالات الانتحار قد تضاعف في السعودية خلال عشر سنوات حتى وصل العدد عام 1430هـ إلى ما يقرب من 800 حالة انتحار فعلي ـــ أي بمعدل حالتي انتحار كل يوم. وهذا الرقم يجعلنا نتساءل كيف يجرؤ مواطن سعودي تربى على مبادئ الدين الإسلامي ومخافة الله أن يقتل نفسه وهو يعلم حرمة التعدي على النفس التي أسكنها الله بين جوانحه, فالله سبحانه هو الوحيد الذي له الحق في انتزاعها متى ما أراد. وهنا يتحتم علينا الوقوف والتأمل وتحليل وتفسير هذه النتائج لمعرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت هذا العمل المحرم يتنامى في بلادنا.
نريد في البداية أن نلقي مزيدا من الضوء على هذه الظاهرة بعرض بعض الحقائق التي سطرها الكتاب الإحصائي. تقول الإحصائيات إن حالات الانتحار ارتفعت من 259 حالة في عام 1417هـ إلى ما يقارب 800 حالة في عام 1430هـ ويعد هذا العدد الأكثر في تاريخ المملكة، هذا بخلاف حالات محاولة الانتحار التي تدخلت السلطات والمؤسسات التطوعية والأفراد في تداركها في حينها. وتتراوح أعمار المنتحرين ما بين 20 إلى 29 عاما ونسبة المنتحرين من الذكور أكثر من الإناث بينما نسبة محاولة الانتحار أو التلويح بالانتحار بين الإناث أكثر من الذكور فقد بينت الدراسات المصاحبة للكتب الإحصائي أن الذكور يقررون الانتحار دون التهديد أو التلويح به، بينما الإناث يستخدمن التهديد بالانتحار قبل تنفيذه، وقد يكون هذا هو السبب الرئيس في انخفاض نسبة الانتحار بين الإناث مقارنة بالذكور. وبشكل إجمالي فقد وجد أن نحو 10 في المائة من الطلبة والمراهقين في المملكة حاولوا الانتحار.
وقد قام عدد من المتخصصين والمهتمين بهذا الشأن بالتعليق على بيانات وزارة الداخلية ومنهم من قام بعرض الأسباب وراء تنامي ظاهرة الانتحار هذه ويمكن ترتيبها حسب التالي: ضعف الوازع الديني, ويعد هذا أهم سبب، تليه الضغوط الاجتماعية, والتي تختلف من منطقة إلى أخرى، ثم الأمراض النفسية، فالعنف الأسرى تليه البطالة فالفقر والجهل، وأخيرا إدمان المخدرات.
ونريد أن نقف قليلا عند السبب الرئيس وهو ''ضعف الوازع الديني''. فكيف يعد ضعف الوازع الديني سبباً رئيساً من أسباب تنامي حالات الانتحار في الوقت الذي يأخذ الدين حقه بالكامل من الاهتمام ونراه متغلغلا في نفوس الناس وتتقبله جميع شرائح المجتمع بأريحية وتدعمه جميع أجهزة الدولة وبرامجها؟ إذا كان بالفعل ''ضعف الوازع الديني'' هو السبب الرئيس فأرى أن هناك عدة احتمالات, إما أن يكون تديننا تدينا شكليا ولم نذق ونستفيد من علاقتنا بالله ولا نعلم ما يسديه لنا الدين في حياتنا الدنيا؟ أو قد يكون خطابنا الديني يتصف بالقسوة ولا نرى من الدين إلا العذاب والويل والثبور وأن الإنسان مصيره جهنم ودخول الجنة استثناء؟ أو أننا نرتبط بالدين ونمارس طقوسه من أجل النجاة من عذاب الآخرة فقط ونغفل ما يقدمه لنا من فوائد جمة في معايشنا، وتسهيل أمور دنيانا، وانشراح صدورنا، واطمئنان قلوبنا، والاستمتاع بمباهج الحياة من حولنا؟ ونظرتنا القاصرة إلى الدين وحصره فيما بعد الموت أفرزت لدينا تناقضات يصعب فهمها فنرى من يحرم الخلوة بالمرأة ويردد على مسامعنا حديث المصطفى ـــ صلى الله عليه سلم ـــ ''ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما'' لكنه لا ينكر عليها ركوبها بصحبة رجل (سائق) يطوف بها أقطار البلاد وعرضها؟ ألا تعد هذه تناقضات تربك العقل، وتشتت الذهن، وتشكك الإنسان في الدين، وتضعه في حيرة حتى يفك شباكها وتتضح أمام ناظريه معالمها؟
أما السبب الآخر الذي يحتاج منا إلى وقفة أخرى فهو ''الجهل''، فالبعض يرى أن الجهل أحد الأسباب الرئيسة للانتحار. ولكن ما يحدث في مجتمعنا وفقا للدراسات المرافقة لتقرير وزارة الداخلية تقول عكس ذلك. فالحقيقة المروعة تقول إنه كلما زاد التعليم زادت نسبة الانتحار. فنسبة المنتحرين الأميين الذين لا يقرؤون ولا يكتبون بلغت 6 في المائة، بينما تزيد النسبة عند من يحملون الشهادة الابتدائية (16 في المائة) وتزيد أكثر عند من يحملون الشهادة الثانوية (26 في المائة)، بينما نسبة المنتحرين ممن يحملون الشهادة الجامعية قد بلغت 18 في المائة من إجمالي عدد المنتحرين.
إن هذا لشيء عُجاب! فنحن نعلم أنه كلما زاد التعليم قلت الجريمة ومن بينها الانتحار, ولكن الذي يحدث في مجتمعنا عكس ذلك تماما، فهل أصبح التعليم وبالاً علينا أم أن نوعية التعليم التي يتلقاها الناس لا تقدم في نمو فكرهم وتحسين سلوكهم شيئا مذكورا, بل إن بعضه قد يحرض على الجريمة والانتحار؟ أم أن هناك مصادر تعليمية ومعرفية لا نعلم عنها ترسخ في عقول الناس وتلقنهم معارف ومهارات وسلوكيات تقودهم إلى ممارسة الإجرام والانتحار؟
نحن بالفعل في حاجة ماسة إلى تكوين فرق عمل دائمة ومتفرغة من عدة باحثين متميزين من التخصصات ذات العلاقة لدراسة وتحليل وتفسير كل الظواهر الشاذة التي أبرزها الكتاب الإحصائي، ومنها ارتفاع نسبة الانتحار، فإن ثبت أن ''ضعف الوازع الديني'' السبب الرئيس للجريمة والانتحار فيجب تغيير نظرتنا إلى الدين وأنه ليس فقط مظهرا شكليا وطقوسا تعبدية, بل مشكاة تنير للناس دروبهم، وتبصرهم بالاستمتاع بحياتهم، وتنمية مواردهم، وتعينهم على مواجهة صعوبات الحياة بصبر وأمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي