تركيا تفصح عن توجهاتها السياسية المستقبلية
أثارت تصريحات أحمد داود أوغلو حول ''الكومنولث العثماني''، التي أطلقها خلال اللقاء الصحافي الذي أجرته معه أخيرا صحيفة ''واشنطن بوست''، ردود فعل عديدة، داخل تركيا وخارجها؛ كونها المرّة الأولى التي يكشف فيها وزير الخارجية التركية عن الدور الذي تطمح أن تلعبه تركيا في منطقة الشرق الأوسط ومحيطها الإقليمي، حيث أشار إلى أن ''بريطانيا أسست الكومنولث مع مستعمراتها السابقة''، ثم تساءل ''لماذا لا تكرر تركيا زعامتها في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى؟''، وبالتالي فإن الكومنولث العثماني الذي يطمح إليه يضم أيضا منطقة آسيا الوسطى التي لم تكن ضمن تابعية الدولة العثمانية، إلى جانب دول البلقان ومعظم دول الشرق الأوسط. لكن اللافت هو أن ما كشفه داود أوغلو في تصريحاته للصحيفة الأمريكية تزامن مع ما نشره ''ويكيليكس'' من وثائق، تصفه بأنه رجل يرى أنقرة مركزا للعالم، ويحمل ''خيالات العثمانية الجديدة الإسلامية''.
الكومنولث العثماني
لا يُخفي قادة حزب العدالة والتنمية التركي حنينهم وفخرهم بالماضي العثماني وميراثه، لكن القوى والأحزاب السياسية المناهضة لهم في تركيا تصفهم بالعثمانيين الجدد، بمعنى أنهم يحاولون إحياء الوجه العثماني لتركيا؛ من خلال السعي إلى إعادة أسلمة الحياة الاجتماعية والعامة، وإعادة الاشتباك مع قضايا العالم الإسلامي بقوة، والتي نأت عنها الحكومات التركية العلمانية السابقة، ومد جسور التعاون والتواصل مع جميع دول العالم الإسلامي.
غير أن داود أوغلو يرى أن تبني العثمانية الجديدة لا يعني السعي إلى أسلمة تركيا أو تبني الطابع الإسلامي للحكومة التركية أو لسياستها، حيث يقول ''إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، ونحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال إفريقيا''. كما أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لم يقبل صفة ''العثمانيين الجدد'' بشكل علني في تصريحاته، لكنه يُذكّر على الدوام بالإرث العثماني لتركيا، ويُذكر على وجه الخصوص الشباب التركي خلال خطاباته بـ ''مجد أجدادهم وتسامحهم مع جميع الأقليات الدينية والعرقية التي كانت مطوية في رداء الدولة العثمانية، ودورهم الحضاري في قيادة العالم لعدة قرون''.
وخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، اتخذ أردوغان مواقف حازمة ورافضة للعدوان، ووجه انتقادات عنيفة للهجوم الإسرائيلي في تصريحاته، حيث قال في خطابه أمام الهيئة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه: إن على إسرائيل أن تعلم أنه ''ليس زعيم دولة عادية، بل زعيم أحفاد العثمانيين''. واعتبر المحللون والمتابعون للشأن التركي أن فحوى تصريحاته تمهد لطبعة جديدة منقحة من الدولة العثمانية في العالم العربي. وتتشابه مع الخلافة العثمانية في انطلاقها من جذور إسلامية، لكنها لا تحمل أطماع الإمبراطورية السابقة.
والواقع هو ليس أحمد داود أوغلو وحده من يعتبر الكومنولث البريطاني نموذجا لكومنولث عثماني جديد، بل هنالك آخرون من السياسيين والمثقفين الأتراك من يعتبر ذلك أيضا، من أمثال حسن جلال جوزيل الذي كان وزيرا في عهد الرئيس تورجوت أوزال. ويطمح أصحاب الطرح العثماني الجديد إلى أن تؤسس تركيا كومنولثا، يضم 45 دولة كانت تخضع في السابق لحكم الإمبراطورية العثمانية، منطلقين من أن تركيا الحالية هي الوريث الطبيعي والشرعي لهذه الإمبراطورية، بالرغم من جميع الفروقات ما بين الجمهورية التركية الصاعدة في وقتنا الراهن وبين الدولة العثمانية التي مضى عهدها وانقضى، واختلاف الظروف والمعطيات.
وهناك من يعتبر أن السعي الحثيث نحو الكومنولث العثماني هو الشغل الشاغل لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوعان وحزبه، ويدللون على ذلك بانفتاحه الواسع على البلدان العربية، الذي وطده بعلاقات اقتصادية وسياسية مميزة في السنوات القليلة الماضية، وحديثه المستمر عن إيجاد نطاق جغرافي وسياسي واقتصادي، يشبه الاتحاد الأوروبي، ويضم تركيا ودول منطقة الشرق الأوسط ودول البلقان ودول آسيا الصغرى ودول شمال إفريقيا. وقد سبق وأن رسم الصحافي الأمريكي توماس فريدمان خريطة، في كتابه ''العالم مستو: تاريخ موجز للقرن الـ 21'' تنبأ فيها أن تكون تركيا زعيمة للمنطقة العربية والبلقان والقوقاز وآسيا الصغرى مع حلول عام 2050.
مرتكزات العثمانية الجديدة
يعتبر أحمد داود أوغلو في كتابه ''العمق الاستراتيجي'' أن قيمة الدولة في العلاقات الدولية تتحدد بشكل رئيس من موقعها الجيو - استراتيجي، ومن عمقها التاريخي، وعليه فإن تركيا ذات الهوية المركبة من هوية شرق أوسطية وبلقانية وآسيوية عليها أن تنهج سياسة خارجية تهدف إلى إرساء دعائم استقرار داخلي وإقليمي؛ لأنه بواسطتهما يتحقق الأمن القومي التركي، الأمر الذي يترتب عليه ضرورة أن توظف تركيا، أمثل التوظيف، موروثها التاريخي والجغرافي في سياستها الخارجية.
ويهدف مسعى أوغلو إلى إخراج تركيا من حالة الطرفية والهامشية، التي عاشتها خلال مرحلة الحرب الباردة وكانت تلعب فيها تركيا دور البلد العضو في حلف الناتو، ونقلها إلى مصاف بلد مركزي، فاعل ومبادر، ويقوم بأدوار محورية ومؤثرة في مختلف القضايا الإقليمية والدولية. وينطلق من اعتبار أن جملة الخصائص الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوثقافية تشكل وحدة تكاملية في ظل استيعاب العامل التاريخي للمجتمعات، وأن كل من المرجعية الحضارية لأي مجتمع، وهويته الثقافية والأنماط التي أفرزتها المسيرة التاريخية على التنظيمات المجتمعية وخارجها، هي بمثابة معطيات ثابتة في معادلة القوة لأي بلد.
وقد تصرفت تركيا خلال العقود الثمانية من تاريخ الجمهورية الكمالية في القرن الـ 20 المنصرم بأقل من ما تسمح لها مكانتها، وبأدنى من إمكاناتها، في سياساتها الإقليمية والدولية، وتعود أسباب هذا التراجع إلى سياسة القطيعة، التي انتهجتها الدولة الأتاتوركية، كي تفصل ماضي تركيا العثمانية وعمقها الاستراتيجي عن حاضر الجمهورية الكمالية ومحيطها الإقليمي، وغلّبت فيها الأمن على الحرية، الأمر الذي أحدث أزمة هوية طاحنة في أوساط النخب التركية، وأفضى إلى تعميق الانقسام بين التيارات العلمانية والجماعات الإسلامية.
وبالرغم من أن تركيا كانت تنزع باستمرار إلى لعب دور القيادة، ولها من الكسب التاريخي ما يطمئنها على مقدرتها، إلا أن عملية التحديث التي قام بها أتاتورك ورفاقه لم تتمكن من سد الثغرة الحاصلة، بين ما كان ممكنا من الناحية السياسية، ووفقا لما كانت تأمله شعارات أتاتورك. وعندما تحررت تركيا من مواجهات الصراع الجغرافي السياسي للحرب الباردة بين الشرق والغرب، بدأت في العمل على إثبات وجودها، إذ لم يعد بالإمكان اعتبار تركيا بلدا طرفيا في استراتيجية الغرب، بل دولة مركزية لها عمقها الاستراتيجي، وذلك بالاستناد إلى العلاقة الوثيقة ما بين الموقع الجغرافي للدولة وبين مستقبل قوتها ودورها السياسي. وحول مركزية تركيا تتمحور فكرة العثمانية الجديدة.
وتمكنت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية من الاستفادة من التحولات العميقة، التي طرأت على الخارطة السياسية الدولية، وإلى لعب دور مهم على المستويين الإقليمي والدولي، وعاد الأتراك مع مطلع القرن الـ 21 بقوة، كي يطرقوا أبواب السياسة في منطقة الشرق الأوسط وجوارهم الجغرافي، فعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع الهامشي الذي فرضته عليهم التبعية لحلف الأطلسي، خصوصا بعد أن اكتشفوا أنهم تحملوا أعباء كثيرة في سبيل حفظ الأمن الأطلسي والغربي، ولم يجنوا بالمقابل سوى حرمان الغرب لهم من اقتسام ثمار التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، فما كان عليهم سوى تلّمس طريق جديد، يقود إلى وجهة مشرقية وإسلامية من دون التخلي عن الوجهات الأخرى، والطموح التركي بالانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبي.
مقاربة استراتيجية
بالنظر إلى أن القادة الأتراك في حزب العدالة والتنمية يعتبرون تركيا الوريث التاريخي لآخر كيان جامع، هو الدولة العثمانية، في المنطقة، فإنهم يبنون على ذلك ضرورة اعتماد تركيا مقاربة استراتيجية تمكنها من تجاوز الانقسامات والتمزقات الجيوسياسية، والجيوثقافية، والجيواقتصادية، ومن الإحاطة بالمنطقة المحيطة بها بوصفها كلا متكاملا، ويتوجب عليها تطبيق هذه الرؤية بمرونة تكتيكية، مع عدم إغفال أي فاعل داخل التوازنات الدولية والإقليمية. وهو أمر يتطلب رؤية جديدة، تقيم وفقها علاقاتها وتجربتها المتراكمة بالابتعاد عن المقولات والهواجس الأيديولوجية، وتحدد بصورة عملية وعقلانية العناصر الأساسية في علاقتها مع دول العالم الإسلامي، فتركيا اليوم ليست الدولة العثمانية التي كانت تحمل على عاتقها مسؤولية العالم الإسلامي كله، كما أنها ليست في حالة تصفية حسابات مع القوى العظمى نتيجة ارتباطاتها بعلاقات مع المجتمعات الإسلامية، وبالتالي، فإن أية ردود فعل تأخذ طابعا نفسيا وعاطفيا، ستؤثر سلبا على مجمل علاقات تركيا مع بلدان العالم الإسلامي، وسيتعدى تأثيرها إلى تقليص مساحة المناورة للدبلوماسية التركية في العمق الآسيوي والإفريقي كذلك.
وتتحدد أهمية منطقة الشرق الأوسط في الاستراتيجية التركية، بوصفها مجالا جغرافيا، يقع في جوار تركيا، ويمكن لها أن تلعب فيه دورا إقليميا محوريا من دون الاصطدام بقوى عالمية ممانعة، حيث يمكن القول إن الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط لا يجد معارضة من طرف الولايات المتحدة؛ نظرا لأنها تعتبره يشكل ثقلا موازيا للدور الإيراني في المنطقة الذي يلقى معارضة الولايات المتحدة. كما أن تركيا تحظى بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حل إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وعليه تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة للتعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودورا مهما في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلا في رسم بعض السياسات في المنطقة.وتكللت المحاولات التركية التي بدأت مع نهاية ثمانينيات القرن العشرين المنصرم بإيجاد توليفة ما بين التركي والإسلامي، تضمنت محاولة لاستعادة الرصيد الجيوسياسي للتجربة العثمانية، على نحو يسمح بتجاوز سلبيات الحقبة الكمالية، ولا سيما منها الانعزالية القطعية مع الموروث الإسلامي والعثماني، والانكفاء إلى المربع الجغرافي الأناضولي، وإعادة ربط تركيا ''العثمانية الجديدة'' بحاضنتها التاريخية والتمحور حول محيطها الجيوسياسي والجيوثقافي، مقدمة لإعادة هندسة العلاقات الإقليمية في الشرق الأوسط وإعادة الشراكة الاستراتيجية مع العرب.
وتفترض رؤية ''العثمانية الجديدة'' لحزب العدالة والتنمية، والتي تنهل من مقاربة الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، استحضار إرث ''القوة العظمى'' العثماني، أو الإرث الإمبراطوري الغابر، وإعادة تعريف مصالح البلاد القومية والاستراتيجية، الأمر الذي يفضي إلى ضرورة النظر إلى تركيا، بوصفها قوة إقليمية كبرى، تتحرك دبلوماسيتها النشطة في اتجاهات عدة، محورها الانخراط المتزايد في شؤون الشرق الأوسط على قاعدة التقارب مع العرب والمسلمين. ويمكن القول إن العثمانية الجديدة ليست جغرافية، أي لا تسعى إلى الهيمنة والسيطرة المباشرة، بل تظهر من خلال ما جسدته وما أبدته تركيا من قوة ناعمة، بواسطة العمل على فتح الحوار الاستراتيجي مع الشركاء في منطقة الشرق الأوسط ودول الاتحاد الأوروبي وسائر دول آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، والعمل على تحقيق الأمن المتبادل، والتعاون الاقتصادي بين تركيا وجيرانها.