التقارب الروسي – الصيني .. قراءة في آفاقه ودلالاته

حظيت الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي بوتين أخيرا للصين بالكثير من الاهتمام، وتناولها العديد من المحللين من عدة زوايا راوحت ما بين الجوانب الاقتصادية والجوانب الاستراتيجية. ويجيء هذا الاهتمام الكبير الذي حظيت به هذه الزيارة انطلاقاً من عدة عوامل منها المكانة التي تحتلها الدولتين في المحيط الدولي كقوتين عظميين، والتقارب الأيديولوجي بينهما، والظروف السياسية العالمية السائدة بكل ما هي حبلى به من توترات، إضافة إلى ما حدث من تغيرات في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة وما صاحبها من هيمنة القطب الأوحد (أمريكا) على مجريات السياسة والاقتصاد العالمي (منظمة التجارة العالمية)، ونشأة العديد من التكتلات الاقتصادية الهادفة إلى حماية مصالحها في وجه الزحف المتمثل في الشركات العابرة للقارات. وقد كانت جل التساؤلات والتحليلات تدور حول محورين أولهما اقتصادي يدور حول المنافع التجارية المتبادلة وثانيهما استراتيجي يصب في خانة توازن القوى. وسوف نستعرض هنا بعض الآراء التي وردت في هذا المجال.
ففيما يتعلق بالملف الاقتصادي فقد تمخضت زيارة الرئيس بوتين أخيرا للصين عن توقيع 15 اتفاقية في مجالات التعاون الاقتصادي والعسكري حيث لم تولد تلك الاتفاقات إلا بعد أن تمت العديد من الاتصالات ومحاولات إذابة الجليد بين العملاقين التي كانت قد سبقت تبادل الزيارات بين القيادتين الصينية والروسية تمخضت في وقت سابق عن توقيع عدة اتفاقيات أخرى من أهمها اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين التي تم توقيعها عام 1996م، واتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين، التي أخذت تسوية ملفها أربع سنوات، إضافة إلى ما تم أخيرا في مجال الطاقة من اتفاق تشتري بموجبه الصين نحو 10 في المائة من الغاز الروسي.
إن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ حتى عام 2005م نحو 30 مليار دولار، وهو لا يعد رقماً كبيراً إذا ما قورن بحجم التبادل التجاري بين أمريكا والصين الذي تجاوز 211 مليار دولار لكنه يعد رقماً كبيراً بالمقارنة مع حجم التبادل بين روسيا وأمريكا البالغ حالياً نحو 14 مليار دولار فقط. لكن هذا لا ينفي في ظل القوة التي تنمو بها الصين اقتصادياً واقترابها من تحدي العملاق الاقتصادي الأوحد، الولايات المتحدة، وحاجتها إلى التكنولوجيا العسكرية الروسية، لكي تتفرغ أكثر إلى التحول إلى عملاق اقتصادي، أن يكون لتصريح الرئيس الصيني القائل إن التقارب مع روسيا أصبح وثيقاً وفيه تعاون أكثر من أي وقت مضى، دلالاته الخاصة بتحول العلاقة بين البلدين إلى طابع يغلب عليه التعاون والتحالف القائم على المصالح الاقتصادية أكثر من قيامه على الصداقة أو المبادئ الأيديولوجية. ويرى بعض المحللين، من الوجهة الاقتصادية والاستراتيجية، أن لدى الصين مصالح مشتركة في القارة الآسيوية ومخاوف مشتركة تتطابق مع تلك التي لدى روسيا بحكم موقعيهما الجغرافيين، كثيراً ما تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة التي يرى البعض وبسبب عوامل عديدة، أن مخاوفها المستقبلية من الصين تفوق مخاوفها من روسيا.
أما بالنسبة للملف الاستراتيجي فيجدر بنا أولاً العودة إلى الوراء إلى فترة الحرب الباردة التي تميز فيها البلدان بالانتماء إلى معسكر واحد وأيديولوجية واحدة، فرغم الخلافات وطابع المنافسة التي شابت العلاقة بينهما آنذاك، إلا أن القاسم المشترك بينهما كان هو العداء لأمريكا والغرب. وأن وجود هذه الأسس يجعل الطريق ممهداً لقيام تقارب جديد يقوم على اعتبارات جديدة تفرضها المرحلة الراهنة. ويرى المحللون أنه بالرغم من وجود إرث للخلاف بين البلدين إلا أنه لا يمنع أن يكون هناك تحالف بينهما. ويرى البعض أن قيام أي تقارب صيني، روسي سوف يكون رادعاً لأمريكا التي تحول فرض هيمنتها على العالم، خاصة أن الأخيرة تسعى جادة نحو التمدد وفرض هيمنتها على القارة الآسيوية، التي تعتبر محيطاً إقليمياً للبلدين، من خلال التقارب أو بسط نفوذها على دولٍ كالهند، باكستان، أفغانستان، والعراق في مقابل تهديدها لدولٍ أخرى مثل إيران وسورية وكوريا الشمالية وغيرها. ويرى البعض في زيارة بوتين للصين أنها بمثابة رد على زيارة بوش للهند التي يربطها تحالف استراتيجي مع روسيا التي تزودها بالأسلحة في مواجهة عدوها اللدود باكستان التي تحصل على احتياجاتها من الأسلحة من أمريكا والصين. ويرى الكثيرون في هذا التقارب الأمريكي ـ الهندي أن أمريكا تدرك أن خصومها الأقوياء في آسيا هم روسيا والصين ولذلك سعت إلى التقارب مع الهند، وهي عملاق نووي واقتصادي ينمو بقوة متسارعة. إن المخاوف المشتركة لا تصنع مصالح مشتركة، كما أن السياسة الدولية لا تبنى على المخاوف وإنما تبنى على المصالح. كما أن ما يظهر على السطح في السياسة الدولية لا يعكس بالضرورة ما يتم طبخة في الخفاء. وإذا كانت الصين تنأى بنفسها عن التدخل في شؤون الأمن القومي الروسي فإن أمريكا لا تكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لكل من روسيا والصين.
ومن أبرز العوامل التي بدت تفت في عضد نظرية الأحادية القطبية تمخض قمة شنغهاي عن مطالبة من دول آسيا الوسطى بخروج القوات الأمريكية من القارة الآسيوية. كما أن تلك النظرية أصبحت بعيدة عملياً عن الواقع بحيث بات لزاماً على أمريكا عند محاولة اتخاذ قرارات معينة ضد دول بعينها أن تستشير دولاً كالصين وفرنسا وروسيا، دون الانفراد بالقرار.
فروسيا والصين، مثلاً، تعارضان فرض عقوبات على إيران، فيما يتعلق بملفها النووي، ويميلان أكثر إلى الحل الدبلوماسي. وبالرغم من أن القوتين الصينية والروسية، الاقتصادية والعسكرية، قد تكونان موازيتين للقوة الغربية أو متفوقتين عليها في بعض الجوانب، إلا أن البعض يرى أن الصين وروسيا لا تسعيان إلى تشكيل محور سياسي أو استراتيجي في مواجهة أمريكا، خاصة أن للبلدين مصالح اقتصادية معها. وعودة إلى الوضع في القارة الآسيوية ومحاولة استعراض العلاقات الصينية ـ الهندية يمكن القول إن كلا البلدين، الصين والهند، بحاجة إلى التعاون مع روسيا وأمريكا على السواء، مما يشير لعدم وجود نية أو محالة لبناء محور روسي ـ صيني أو أمريكي ـ هندي.
وبالرغم من أن للبلدين مواقف كثيرة خلال فترة الحرب الباردة تميزت بدعمهما حركات التحرر على الصعيد العالمي، إلا أن مواقفهما تبدو أكثر تناقضاً في مجال العلاقات الدولية، خاصة تجاه العالم العربي. فعلى سبيل المثال، بالنسبة للقضية الفلسطينية قامت موسكو أخيرا باستضافة وفد حركة حماس، التي تصنفها أمريكا منظمة إرهابية، بينما نجد أن الصين ما زالت تتردد في اتخاذ خطوة كهذه، مما يعني أن مواقف الصين في العلاقات الدولية تبدو أكثر نأياً عن المواجهة الصريحة وتتسم بالانزواء وعدم الوضوح. وبنظرة سريعة إلى زيارة الملك عبد الله لكل من الصين والهند يرى بعض المحللين أنها تأتي في إطار تبادل توجه اقتصادي من المملكة يهدف إلى دعم العلاقات الاقتصادية مع البلدين اللذين يعتبران من كبار مستوردي النفط إضافة إلى النمو المتزايد في حجم تجارة المملكة مع البلدين، علماً بأن المملكة التي تعد أكبر منتج للنفط وقبلة للحجاج والمعتمرين تربطها علاقات متوازنة مع كافة دول العالم تقوم على المصالح المتبادلة والنأي عن المحاور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي