قضية الشباب.. الخطر الداهم!! أما من متبصر؟!
أستأذن القارئ الكريم في أن أدخل إلى الموضوع مباشرة, لأن قضية مثل قضية الشباب التي يفترض أن تشغل وجدان كل أب وأم ومواطن غيور, لا تحتاج إلى تمهيد ومقدمات. وأقصد بقضية الشباب ذلك الضياع المدمر الذي يعيشه معظم شباب الوطن, الذين يؤلفون النسبة العظمى من سكانه, كما تقول الإحصاءات والتقارير الرسمية, البعض منهم مؤهل ولم يجد عملا, والبعض لم يجد كلية أو معهدا يكمل فيه دراسته وتأهيله, وحتى من ليس من هاتين الفتئين تتنازعه دوافع الضياع بين الفراغ واضطراب التفكير والعجز عن التعبير.
تصوروا معي: شاب متخرج في الثانوية العامة لم يجد قبولا في الجامعات الحكومية, ولا يتحمل دفع رسوم الكليات الأهلية الباهظة, ولم يجد عملا, ووالده فقير, أو حتى متوسط الحال, كيف يعيش؟ ومن أين ينفق؟ أليست هذه حال الشريحة الكبرى من شباب الأمة؟ وتصوروا معي: شابة كافحت واجتهدت حتى تخرجت في الجامعة, ثم لم تجد عملا فبقيت في المنزل رهينة محبسي الإحباط والفراغ, دون عمل أو أمل, ودون أي دخل, كيف تعيش؟ ومن أين تنفق على ما تحتاج إليه المرأة عادة من المستلزمات الضرورية؟ أليست هذه حال معظم الشابات البائسات اللاتي تغص بهن البيوت؟
ونظرة إلى واقع الشباب عموما, حتى ممن ليسوا من الفئات المذكورة, تثير العديد من التساؤلات حول وضعهم, كيف يعيشون ويقضون أوقات فراغهم, ما نظرتهم إلى المستقبل؟ وما مدى ولائهم وانتمائهم إلى المبادئ والوطن؟ إن من يتمعن في واقع الحال من خلال ما يجري في الشوارع والمراكز التجارية, وحول التجمعات الأسرية, وما تسجله المضابط الرسمية في الدوائر المختصة, مثل أقسام الشرطة وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتنقل لنا بعضه وسائل الإعلام, ويتداوله المجتمع من صنوف شتى من المشاكل الاجتماعية, من انحرافات فكرية وجرائم أخلاقية, ومعاكسات وتحرشات ومطاردات وخطف واغتصاب للنساء والفتيات, وحتى الأطفال, من يتأمل ذلك كله, لا بد أن يعتصره الألم وتستبد به الحسرة لما تحول إليه الحال, بعد ما كنا فيه قبل فترة لا تعد طويلة بحساب الزمن مجتمعا يضرب به المثل في الأمان والاطمئنان والرضا والولاء, ولما سوف يؤول إليه الوضع بعد عقد أو اثنين بقياس ما يجري حاليا!
إنني أتكلم بألم, من واقع إحساس ومعاناة ومعايشة لما يجري, وخوف ووجل مما سوف يجري, خصوصا نحن نرى المعضلة تكبر وتتفاقم ويزيد خطرها, والكل ساكت, سواء من يعنيهم الأمر ويسألون عنه أمام الله وولي الأمر, أو حتى من ليس معنيا به, رغم كونه من ركاب السفينة حينما يدهمها الطوفان! وما يزيد النفس ألما هو أن مشكلة الشباب تبرز أكثر في وقت نعيش فيه تدفقا ماليا هائلا, لم يمر أو يخطر ببالنا أنه سيمر, حيث تحمل لنا الأنباء تخطيه حواجز التوقعات, لأن (المستوى الحالي لأسعار النفط سيشكل دخلا إضافيا للاقتصاد السعودي مع نهاية العام الجاري ربما يصل إلى 262 مليار ريال) ("الاقتصادية" 25/2/1427هـ). ورغم ذلك لم نفكر ونخطط لحل مشاكل الشباب, ومنها ما لا يحتاج إلى أكثر من العزم والإرادة والقرار, وأخشى ما نخشاه أن تزيد هذه الثروة من تكريس انقسام المجتمع إلى قلة ثرية وكثرة فقيرة, كما هو الحال المشاهد في جوانب عدة من حياتنا. انظروا مثلا إلى حال الشاب المعدم الدخل عندما تمتد يده إلى أي شيء, حتى لو كان حاوية النفايات الفارغة أو غطاء الصرف الصحي, لكي يبيعه ويحصل على النقود بأي كمية, ليركب سيارة أجرة, أو يضع وقودا في سيارته إن كان يملك سيارة, أو ليجلس في المقهى مثل غيره, أو حتى يسطو على هاتف نقال عندما ييأس من الحصول عليه بغير هذا الأسلوب؟ وهو يرى طرق العيش قد سدت أمامه بهذه الجحافل القادمة من كل صوب التي استولت على كل فرص الكسب التي يرى الشاب أنه أحق بها منها! وليس بالأمر البعيد أن تتعدى ممارسات الشباب هذه الحدود, فيتحول تفكيرهم, أو يُحوّل بسهولة إلى ركوب موجة الانحراف الفكري تحت وطأة اليأس والقنوط والعوز المادي, أو تجتاحه الرغبة في الانتقام من كل شيء, حتى من نفسه بالانتحار, الذي أصبح من السمات الدخيلة على مجتمع كنا نعده أكثر المجتمعات تمسكا بالعقيدة الإسلامية التي تعد مثل هذا الفعل كفرا بواحا.. ربما ينبري من يقول إنه في كل مجتمعات الدنيا هناك طبقات فقيرة لا تجد ما تقتات منه غير حاويات النفايات, ولا تجد ما تلبس منه غير أرصفة الملابس المستعملة، ومع ذلك فهي قانعة بوضعها، ولم يحدث فيها شيء مما نراه في مجتمعنا من ممارسات، ونقول هذا صحيح، ولكن الأمر مختلف بين بلد لا يجد فيه المواطن الفقير أمامه أي خيار أفضل مما هو فيه، وبين بلد يفتح أبواب العمل لكل شعوب الأرض ويوصدها أمام المواطن أينما اتجه، بين بلد محروم من الموارد الاقتصادية والطبيعية، ولا يكاد يستطيع توفير رواتب جهازه الإداري، وبين بلد يتدفق فيه معين الثروة الطبيعية من الذهب الأسود الذي يتزاحم العالم في طوابير لتحويله إلى ذهب أصفر.
إن أخشى ما نخشاه أن تنقلب النعمة إلى نقمة، والثروة إلى ثورة على القيم والمبادئ والأخلاق، وهو ما نرى بوادره ظاهرة، إن نحن لم نتبصّر ونتأمل ونتدارك الوضع، فقضية الشباب هي الخطر الداهم القادم، الذي نرى نذره بين ظهرانينا في صور الانفلات والتمرد والضياع، وتهديد أرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم، ونرى أن جُل محاولاتنا المتواضعة لاحتوائه سواء من خلال محاوراتنا في الحوار الوطني أو الدوران حول مشكلة الفقر دون الدخول إلى عمقها أو حتى برامج التدريب المشترك المتواضعة لم تفلح كلها في تشخيصه "أي الخطر" والتعرف على أبعاده وتأثيراته ومسبباته، بدليل أننا لم ننجح في التشخيص ووصف العلاج، ناهيك عن وقف انتشار المرض.
إن مشكلة مثل مشكلة الفقر وحدها في مجتمع تستأثر فيه القلة من الناس بالثروة أو مشكلة كمشكلة البطالة في مجتمع نسمح فيه بأن ينحي العامل القادم من أقاصي الأرض ابن الوطن عن مكانه الصحيح الذي يجب أن يكون فيه، كافية لزعزعة كيان المجتمع وخلخلة تماسكه وسلوكه وتلاحمه مع قيادته ومع ذاته، ولنا في تاريخ الأمم عبر شتى لمن أراد أن يعتبر.
هل نترك شباب الأمة وعماد نهضتها ومستقبلها فريسة الكبت والتذمر والأفكار السوداوية، لا يجدون متنفسا إلا في السطو والانتقام من الذات، ومحاصرة الأسر، والرقص في الشوارع، ومصارعة رجال هيئة الأمر بالمعروف، أو اللجوء إلى السموم "الكلونيا" يبحثون فيها عن مخرج من واقع أليم إلى ما هو أشد إيلاما منه.
هل من حلول؟
إن الحلول عادة ليست مسؤولية الكاتب، فمهمته هي ترجمة نبض الشارع، ونقل هموم المواطن، وما يواجه المجتمع من مشكلات وإبرازها أمام من هو مسؤول عنها، بيد أن الكاتب فيما يمكن أن يطرحه من حلول، إنما ينقل ما يتداوله الناس ويلمسون أن فيه الحل، فمن يعيش المشكلة ليس كمن يسمع عنها، ومن يطارد قوت يومه ليس كمن يرفل في النعيم.
أين نحن من العودة إلى التفكير جديا في تبني برامج التجنيد العسكري الإلزامي أو خدمة العلم وفق ما هو معمول به في معظم دول العالم، بهدف ترويض الشباب وتعميق معاني الولاء والجد والالتزام، واحترام القيم في وجدانهم؟ ناهيك عن صقلهم ذهنيا وجسمانيا وإعدادهم للدفاع عن الوطن عند أي نازلة.
لماذا نستمع إلى أعذار التنصل من التزام توظيف الشباب يوما بعد آخر، ونحن نعلم أنه لن يقوم أحد بتوظيف المواطن إذا كان سيحصل على غيره ولو بالإلحاح والصياح، لأن الأجنبي سيستجيب للاستغلال وسيعطي أكثر مما يأخذ؟
لماذا لا نفك الخناق عن متنفسات للشباب ينفسون فيها من طاقاتهم المتأججة مثل نوادي السيارات، الرياضات البرية، والسباقات المتنوعة، بل ونتوسع فيها بحيث نستضيف السباقات "الراليات" الصحراوية، وننظمها وندعو لها المهتمين بها من خارج المملكة، لتوافر البيئة الملائمة لإقامتها والتي ربما تتفوق على غيرها من حيث الطبيعة والاتساع وتنوع الأجواء؟
أين نحن من صناعة المسرح التي وأدنا بداياتها بأيدينا قبل عدة عقود، وقضينا على واحد من أهم ينابيع الثقافة والمعرفة، التي تعزز وتبرز تاريخ الأمم، وتحفز لدى أبنائها الهمم، وتكشف عن المواهب، وتفتح الباب لتعزيز سمعة البلاد عاليا في مجالي التمثيل والتأليف، فكم من المؤلفين والممثلين المسرحيين أسهموا في التعريف ببلدانهم وتراث أمتهم الثقافي والحضاري.
أين نحن من السينما كصناعة ومجال استثمار اقتصادي يجد فيها الشباب والأسر وسيلة تثقيف وترفيه بعيدا عن الإسفاف والمحذورات، بدلا من الانكفاء في الزوايا المعتمة على الإنترنت، أو التنقل بين قنوات المجون والخلاعة في العتمة التي توفرها على مدار الساعة، مقاهي المعسل، التي أصبحت وسيلة الجذب الأولى للشباب.
والله من وراء القصد.