شباب «إيران بروكسي» يحلمون بالتغيير

اعتقلت السلطات الإيرانية، منذ فترة وجيزة، 30 شاباً من أعضاء شبكة يطلق عليها اسم ''إيران بروكسي''، وادعت أنهم يشكلون الطرف الفاعل فيما يسمى ''مشروع حرب الإنترنت الأمريكية'' على إيران، الذي تشرف عليه وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، وخصصت له مبلغ 50 مليون دولار أمريكي.
ووجه الادعاء العام الإيراني تهماً لهؤلاء الشباب، تلخصت في العمل على تخريب المواقع الحكومية، واختراق بنك المعلومات العام، وتأمين وسائل وطرق آمنة لاتصال مواطنين إيرانيين بإذاعات وقنوات أجنبية، ومحاولة إيجاد غطاء آمن لنشاطات المعارضة الإيرانية في شبكات افتراضية ضد إيران.
وتدخل هذه الحادثة في سياق ملاحقة السلطات الإيرانية للشباب الذين أسهموا وقادوا الحركة الاحتجاجية التي اندلعت على أثر الإعلان عن نتيجة انتخابات الرئاسية الإيرانية، التي جرت في 12 من حزيران (يونيو) من عام 2009. وقد كشفت أزمة الانتخابات الرئاسية المدى الذي وصل إليه الانقسام داخل النظام الإيراني وفي المجتمع أيضاً، حيث أظهرت انقساماً عميقاً حول الوضع في هذا البلد وسياساته وتوجهاته وخياراته. وتجاوزت الأزمة الصراع والتنافس الانتخابي ما بين المحافظين والإصلاحيين، لتطول عديدا من مؤسسات وأركان النظام السياسي، وذهب بعض المهتمين بالشأن الإيراني إلى الحديث عن دخول الثورة الإيرانية غرفة الإنعاش، بل أعلن آخرون اقتراب نهايتها.

حراك الشباب
برز الشباب الإيراني كشريحة فاعلة وقوية في مجتمعهم، تصدرت وقادت الحركة الاحتجاجية ضد نتائج الانتخابات، التي أفضت إلى إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد، وأكسبوا الأزمة تعبيراً جديداً، وجد متحققه في فضاء وسائل الاتصال الحديثة، وخصوصا فضاء ''الإنترنت'' الرحب الذي لا تحده حدود ولا تقف في وجهه الموانع والأسلاك الشائكة.
وشاهد العالم بأسره، خلال عدة أشهر متواصلة، صوراً من شوارع إيران وساحاتها وجامعاتها، تناقلتها شاشات التلفزة الفضائية، وكانت مأخوذة بواسطة الهواتف النقالة، وبثت على مختلف مواقع الإنترنت. وكان الشباب الإيراني يحلم في ذلك الوقت بالتغيير، وبالخلاص من السلطة القامعة، خصوصاً أن أغلبيتهم تنتمي إلى جيل امتلك ناصية المعلوماتية، وتمكن من التواصل مع العالم عبر مختلف بوابات عالم الإنترنت، ويريد أَنْ يضحك ويرقص ويبكي وأَنْ يعيش بحرية من دون قمع أو كبت.
ويشير ثقل الأزمة واستمرارها إلى أن ما حدث خلال تلك الفترة كان أكبر من مجرد احتجاجات غاضبة على نتيجة الانتخابات الرئاسية، لكن، ومع ذلك فإنه كان من غير الممكن أن تستمر الاحتجاجات المباشرة في الشوارع الإيرانية إلى ما لا نهاية، لأن النظام الإيراني أغلق المجال العام أمامها تماماً، ومنع حدوثها، حتى ولو كانت على شكل تأبين بعض الضحايا الذين سقطوا خلال التظاهرات وإبداء الحزن عليهم. إضافة إلى أن الظروف الداخلية لم تسمح بتصاعدها في ظل انقسام عميق في المجتمع الإيراني. كما أن فضاء الإنترنت المفتوح لا يكفي وحده لإحداث أثر كبير، فبقي مجرد وسيلة للتعبير عن الاحتجاج، ولكشف الملاحقات ونشر بعض تفاصيل الأحداث، ولإيصال الصوت الإصلاحي إلى العالم أجمع.
وقد عاشت إيران، في النصف الثاني من عام 2009 وبداية عامنا الحالي، أياماً تاريخية مع احتجاجات الشباب التي اتسعت لتشمل عديدا من المدن الإيرانية، وكانت تظاهراتهم تتوجه، في كل يوم، ضد ولاية الفقيه، وضد المرشد الأعلى علي خامنئي تحديداً، بوصفه رأس النظام، وتجرأ بعضهم على مواجهة ميليشيا النظام، وتحطيم هيبة المرشد الأعلى للثورة والخروج عليه. وأكد الحراك الشبابي الذي انخرط في دعم الحركة الإصلاحية على أن إيران بعد إعادة انتخاب نجاد ليست إيران 1979، إذ في ذلك الوقت اتحدت الغالبية الإيرانية خلف ثورة تسلحت بالدين، لكن الجمهورية المتمسكة بتلابيب الثورة الإسلامية لم تعد واحدة، في ظل الصراع بين المحافظين والإصلاحيين، وطموحات الشباب في التغيير.
ولم يجد النظام الإيراني غير أسلوب الحجب والتعطيل والملاحقة والسجن في تعامله مع الشباب، ولجأ إلى حجب المواقع الإلكترونية وتعطيل خدمة الإنترنت بكاملها في بعض الأحيان، وملاحقة الشباب المشاركين في نقل وتصوير ما يجري في شوارع المدن الرئيسة في إيران إلى العالم، ولم تنفع محاولات السلطات اليائسة للتعتيم عليه. وكانت جميع الطرق التي تعامل بها النظام مع المحتجين قديمة وغير مجدية، ولا ترقى إلى مصاف طرق وأساليب الشباب الحديثة والمتقدمة، ونسي المحافظون في إيران أن الشباب ممثلاً بطلاب الجامعات الإيرانية وسواهم شاركوا في معظم الأحداث التي حصلت في الداخل الإيراني، ونذكر هنا الدور المهم الذي لعبوه في التغيير السياسي إبان عهد الشاه والثورة الإسلامية، وبالتالي يمتلك حراكهم ضد النظام الإيراني الحالي أهمية خاصة للدلالة على مدى الأزمة السياسية التي يتخبّط فيها النظام بعد أكثر من 30 عاماً على الثورة، وعلى تأزم الوضع المعيشي لأغلبية السكان، الذي وصل إلى درجة صار فيها أكثر من نصفهم تحت خطّ الفقر، بينما يزداد الفساد في قطاع الدولة ومؤسساتها. إلى جانب أن حراكهم كشف عن عمق الأزمة وعن حالة الوصول إلى انسداد الأفق الذي تقف وراءه مراكز القوى ونفوذها المتوارث من عهد الإمام الخميني.
وقد اتخذ حراك الشباب الإيراني طابعاً احتجاجياً منذ عام 1999، عندما قام طلبة الجامعات بمظاهرات على خلفية مطالبهم بتغيير بعض التوجهات السياسية الاقتصادية للحكومة الإيرانية، الأمر الذي تسبب في بثّ الذعر بين أوساطها، ثم شهد منتصف عام 2003 تظاهرات حاشدة في جامعات طهران وأصفهان وشيراز وغيرها، وأعاد الطلاب الكرة من جديد في عام 2005، وسيروا مظاهرات مساندة للإصلاحيين، الذين كان يمثلهم في ذلك الوقت الرئيس السابق محمد خاتمي، وبالتالي فإن حراك الشباب للمطالبة بالإصلاح لم ينقطع على مدار السنوات الممتدة من عام 1999 وحتى عام 2004.

شباب الإنترنت
يشكل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً قرابة 65 في المائة من إجمالي عدد سكان إيران، حسب إحصاءات بعض مراكز الدراسات الإيرانية، فيما تذهب بعض التقديرات الخارجية إلى أن نسبتهم تفوق نسبة 75 في المائة، هي نسبة كبيرة للغاية، وباتت تقلق قطاعاً واسعاً من النظام الإيراني، كونهم ولدوا بعد الثورة الإسلامية الإيرانية، التي أطاحت بحكم الشاه وجاءت بالإمام الخميني على رأس جمهورية إسلامية، الأمر الذي يعني أن هؤلاء الشباب لم يعيشوا، ولم يعرفوا، الظروف التي نشأت فيها الثورة ولا منطلقاتها الأيديولوجية، إلا من خلال المنشورات الموزعة رسمياً، ومن الدروس الملقاة في المدارس، ومن البرامج الرسمية في الإعلام المرئي والسمعي والمكتوب، ومن مراكز ترشيد الثورة. وتربى ما بات يعرف بالجيل الثالث من الشباب في الجامعات والمعاهد، وعرف مقاهي الإنترنت، والقنوات الفضائية، والأفكار الليبرالية، بعيداً عن الحوزات وشعارات الحرس الثوري الأيديولوجية، وبعيداً عن لغة تصدير الثورة والتصادم مع الغرب. ومن الطبيعي أن يتوق الشباب في إيران، وفي سواها، إلى العيش بحرية، بعيداً عن الشعارات والمناسبات الرسمية، وأن يتطلعوا إلى فكّ القيود التي تفرضها المؤسسات الدينية والسياسية، وأن يستمتعوا بشبابهم، وبمواهبهم الفنية والجسدية.
ويصل متوسط عدد مستخدمي الإنترنت في إيران، حسبما يشير الاتحاد العالمي لمستخدمي الإنترنت، نحو سبعة ملايين مستخدم، ويعتبر مؤشراً مميزاً بالنسبة للشباب الإيراني، خاصة بعد إغلاق السلطات الإيرانية عشرات الصحف الإصلاحية خلال السنوات الخمس الأخيرة، الأمر الذي أكسب استخدام الويب أهمية كبيرة للعشرات من الشباب الإيراني.
ومثلهم مثل معظم شباب العالم دخل الشباب الإيراني عالم الشبكة العنكبوتية، سعياً للتواصل والمعرفة ومعرفة الآخر، ففتحوا صفحات خاصة بهم، وكتبوا المدونات التي ناقشوا فيها تفاصيل حياتهم إلى جانب قصص وحكايات الأدب والشعر والموسيقى والثقافة والحبّ، وبكثير من الفكاهة والسخرية والأمل. وقدموا نموذجاً في استخدام التقنيات الحديثة وشبكة الإنترنت، والاستفادة مما تتيحه مواقع الفيس بوك واليوتيوب وتوتير سواها، في سبيل التغيير نحو عالم أفضل، وذلك بالرغم من ثقل التضييق الأمني، الذي مارسه النظام الإيراني أمام استعمال مثل هذه التقنيات، واستخدام أساليب المنع و''الفلترة'' التي أغلقت عديدا من المواقع الإلكترونية لأسباب سياسية، فضلاً عن أن الحكومة الإيرانية قامت بحظر توصيلات الإنترنت عالية السرعة بدءاً من عام 2006، ومع ذلك تمكّن الشبان الإيرانيون في عام 2009 من توظيف الإنترنت لنقل ما يحدث من تظاهرات وتجاوزات وقمع لمعارضي النظام الإيراني إلى العالم الخارجي. ولعل نشر مقاطع صور الفيديو لمقتل الشابة الإيرانية ''ندى سلطان'' على الإنترنت قدم الدليل الواضح على نجاحهم في نقل ما كان يحدث في الشارع الإيراني، وأفضى ذلك إلى إطلاق عديد من المظاهرات في عدد من عواصم العالم للتنديد بمقتل ''ندى سلطان''.
وقد فرضت الحكومة الإيرانية سيطرتها على مختلف وسائل الإعلام، المكتوبة والمسموعة والمرئية، وأوقفت الإصلاح الإعلامي، ومع ذلك قام الصحافيون الإصلاحيون بتركيز اهتمامهم على الإنترنت، وحولوا بعض المواقع الإلكترونية إلى منابر للمعلومات والآراء غير الخاضعة للرقابة. ونشأت بين أوساط الشباب الإيراني مجموعة كبيرة لكتّاب ''الويبلوغ''، الذينَّ يتناولون مواضيع نقدية وسياسية مختلفة، وتمكنوا من تجنُّب الرقابة الحكومية المطلقة ونشر كتاباتهم وأَعمالهم في الإنترنت. وأسهموا في تشكيل فضاء حرّ على الإنترنت في عالم يُحرم فيه التعبير الحرّ والصحيح عن الرأي ويتم فيه منع وسائل الإعلام من قول الحقيقة.
وتشير بعض الدراسات إلى أن اللّغة الفارسية باتت اللّغة الرابعة المستخدمة في المذكّرات اليومية في الإنترنت بعد الإسبانية والصينية والأَلمانية. وقد قابلت السلطات الإيرانية ذلك بإصدار القوانين التي تعتبر أَنَّ كل من ينشر ويروِّج دعايات ضد النظام الإيراني، يشكِّل خطرًا على الأَمن القومي، ويخل بالنظام العام ويسيء للمشاعر الدينية، وحذرت كل من يستخدم لهذه الأَغراض جهاز حاسوب أو وسائل اتصالات بأنه سيُعاقب، وبالتالي أضحت السلطات تلقي القبض بشكل عشوائي على كتّاب الويبلوغ وتضعهم في السجون.

الخارج والداخل
بالرغم من كل ما حدث في إيران، فإنه يمكن القول إن التقنيات المعلوماتية ليس بوسعها خلق التغيير، بل يمكنها إتاحة المناخ والبيئة التي تمكن من حدوثه، لأن العنصر البشري هو الذي يملك مفتاح التغيير في أي بلد، وهو صاحب الدور المحوري في إحداثه أو منعه أو تأخيره. وهناك أمثلة عديدة على دور التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال الحديثة في الإسهام في إحداث التغيير، ولعل أقرب مثال هو ما حدث في جمهورية قيرغيزيا أخيرا، حيث أسهم المدونون فيما سمي ثورة ''التيوليب'' في توفير المعلومات التي لم تتمكن وسائل الإعلام من إتاحتها لعامة الناس في ذلك البلد الذي ثار على الرئيس ّعسكر أكاييف وأجبروه على الهروب وترك السلطة بعد حكم استبدادي طوال 14 عاماً. ولا يمكن الاستهتار بأهمية شبكة الإنترنت في نقل وصياغة الأخبار الواردة من إيران، وبإمكانية التدخل الخارجي، حيث تدخلت وزارة الخارجية الأمريكية لدى موقع ''تويتر'' كي يستمر في تقديم خدماته في إيران خلال فترة الاحتجاجات، بالرغم من حاجته لأعمال الصيانة الضرورية، ولا أحد يشكك في الأهمية التي يوليها المسؤولون الأمريكيون لما تقدمه وسائل الإعلام الغربية من مصادر معلومات مقربة من بعض أوساط المعارضة الإيرانية. كما أن وزارة الخارجية الأمريكية تصرف ملايين الدولارات سنوياً على الحملات الإعلامية المناهضة للنظام الإيراني، والمساندة القوى المعارضة للنظام داخل إيران وخارجها، ولا تتوانى عن استخدام شبكة الإنترنت كأداة لتعبئة المعارضة والتحريض ضد النظام في إيران. ويتحدث بعض المسؤولين الأمريكيين، خصوصاً من أوساط اليمين الأمريكي، عما يسمونه ''الديمقراطية الرقمية''، وهو مفهوم ينهض على اعتبار أنّ الوسط الشبابي في منطقة الشرق الأوسط، جاهز للتأثير الخارجي من خلال ''ممرّات التكنولوجيا'' كالفضائيات التلفزيونية والهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت. وسبق أن أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس في عام 2006، عن تمويل الإدارة الأمريكية نشاطات خفية، هدفها تغيير النظام الإيراني.
غير أن ذلك كله لا يبرر استمرار الأزمة في إيران، ولا يفسر اندلاع الحركة الاحتجاجية على النظام، ولا دخول الشباب على خط المطالبة بالإصلاح والتغيير، لأن الأزمة بنيوية، تطاول طبيعة النظام وتركيبته وتوجهاته، والأجدى للشعب الإيراني البحث عن مخارج سليمة تشرك الشباب ومختلف تيارات الإصلاح في البحث عن المخارج والحلول التي لا تستثني أحداً، بل تضع في حسبانها حقوق الإنسان والمواطنة والعيش الكريم بلا إكراهات أو قيود وملاحقات. وليس صعبا أن يبحث النظام الإيراني عن صيغة ما أو مصالحة ما بين ''ولاية الفقيه'' ومتغيرات العصر الجديدة، خصوصاً أن جيل المتظاهرين من الشباب لم يعد يرضى بالشعارات الطنانة، ولا بمزيد من المعتقلات والسجون. لكن، يبدو أن الذين أرادوا التغيير في إيران قد خاب أملهم من جديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي