مجتمع انتقادي لا يقبل الانتقاد
أحداث كثيرة دعتني للتطرق إلى هذا الموضوع، فكثير منا يصف عالمنا العربي بأسره بهذه الصفة، والبعض يرى أننا نملك حق الانتقاد للتوجيه، ولا يجب أن نسمح للطرف الآخر بأن ينتقد تصرفاتنا أو سلوكنا أو أن يقوم بما نقوم به تجاهه، وإلا اعتبر ذلك من القدح الذي لا يُغتفر. كل منا يستطيع أن يضع هذا الإطار في حياته، ويرى كيف يمارس حقه المشروع في انتقاد الأفعال، وحقه غير المشروع في التمادي ونقد الأشخاص بطريقة لا توحي بالإصلاح، وإنما لتحقيق انتصارات شخصية، أو لإثبات قوة وإشباع رغبة داخلية، يقول الإمام الشافعي ـــ رحمه الله:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
القصص كثيرة من واقعنا المحيط، فالتراشق بين بعض الشخصيات الذي يطفو على السطح بين الفينة والأخرى، أميز دليل على أن بعض هذه الانتقادات لا تصب في الصالح العام، وإنما تصب في مصلحة طرف على آخر، أو الاقتصاص من طرف لمصلحة طرف ثان. في الأيام القليلة الماضية صدر فيلم وانتشر على مواقع الإنترنت ينتقد صاحبه بعض ممارسات العمل التطوعي، وينتقد بعض العاملين في المجال التطوعي. وهنا أقول إنه لا يخلو عمل من نقص، والكمال صفة إلهية لا يصلها بنو البشر. الانتقاد جميل إذا قصد منه البناء ووجه لخدمة القضية الرئيسة، ولكن ليس لتصفية الحسابات، والظهور بصورة البطولة المنفردة. وكان الأجدر بالمنتقدين المساهمة في تنمية الوعي العام لفكر العمل التطوعي، وترغيب الناس فيه بالطريقة التي تعدل من الانتقادات الحاصلة.
لتتبع أسباب هذا السلوك الانتقادي الذي جبلت عليه أجيال عديدة في مجتمعاتنا، قد نسند الأمور لسببين رئيسين هما التعليم والتربية. التعليم تأثر كثيرا بالشخصية النمطية للمجتمع، حتى أصبح التعليم مجرد تلقٍ، لا يضيف كثيرا في تنمية السلوك البشري، ولا يترك بصمة مختلفة لدى كثير من المتعلمين.
أما الأسرة فتهدر جزءا كبيرا من التربية على الانتقاد في قشور الأمور، فتُخرج لنا جيلا هشا لا يستطيع مناقشة الأمور بالعمق والجودة المأمولين. ودور الأسرة يتأثر كثيرا بدور التعليم، فأحدهما مدخل للآخر، وينطبق عليهما التساؤل نفسه: أيهما خلق أولاً البيضة أم الدجاجة؟
ما نرجوه هو وجود صوت العقل في أمورنا العامة، وأن توكل هذه الأمور لمناقشة العقلاء ومحاورتهم. وفي هذا المقام يجدر الاستشهاد بمقولة للكاتب المبدع نجيب الزامل في هذه الصحيفة عندما رد علي في أحد مقالاته قائلاً:
''ألا يعقل العاقلون يا دكتور، أننا نتراجم حول عين الماء التي نشرب منها، ثم سيدفنها حصى الرجم (وهم) يعتقدون أنهم يحمون عين الماء التي ينهل منها الظامئون.. النتيجة سيموت الجميع عطشا .. إننا بهذه الأمة نجدف جميعا في قارب واحد فالأولوية هي للوصول لبر الأمان، لا للقتال داخل القارب، فنكون طعاما لوحوش وهوام البحار!''.
الحوار هو أحد أهم عناصر التعايش البشري، وهو ما تدعو إليه حكومة هذه البلاد المباركة، وعملت لأجله الكثير. وأبرز دليل على ذلك مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، فهل ننمي في أنفسنا وفي أجيالنا القادمة ثقافة الحوار وانتقاد الأفعال، وتقبل النقد بروح التطوير والتحسين. أم نبقى في ثقافة نقد الآخر والبحث عن نصر وأمجاد هلامية على حساب قضايانا المشتركة؟