دولة بحجم المملكة ومكانتها بدون نقل عام!! هذه نقيصة (2 من 3)
استعرضنا في مقال الأسبوع الماضي عنصرا واحدا من عناصر النقل هو سيارات الأجرة, ورغم ما ذكرته عنه, أشعر بأنني لم أفِ بما يعتلج في نفوس المواطنين حول هذه الخدمة, لأنني لم أطلع على واقع الحال في كل المدن, وما يعانيه المواطن والمقيم في الحصول على وسيلة نقل معقولة, تنقله إلى حيث يريد. وأعترف بأنني نقلت مشاهداتي من واقع إحساس المواطن حول هذه الخدمة في المدن الكبيرة التي أتنقل فيها عادة مثل الرياض وجدة والدمام, ولم أكن أعلم أن الصورة في المدن الأخرى المتوسطة والصغيرة, يمكن أن تكون بالسوء الذي نقلته لي بعض تعقيبات المواطنين على المقال الأول, وأحدها ما نقله لي مواطن بالفاكس عن الوضع في مدينة تبوك, حيث يقول "هل ذهبت إلى تبوك وأوصلك تاكسي المطار إلى الفندق, ثم أردت أن تخرج في مشوار لأي ظرف, لن تجد تاكسيا واحدا إلا (الركشة) أو ما يسمونه (طرطيرة) أو (وانيت) فتشعر بالمهانة إن ركبتها, وكأنك في (مانيلا) أو (بومبي), وكما تعلم أن تبوك واجهة المملكة, وبوابتها الشمالية الغربية, علما أن هذا المنظر لن تجده في الدولة الفقيرة الجارة الأردن, هل يعقل هذا؟!
ولا أتوقع أن تكون المدن الأخرى أفضل حالا من ذلك, وهذا جانب آخر مظلم من الصورة التي عبر عنها المواطنون أنفسهم عن وضع المدن التي تفتقر إلى أي وسيلة نقل, حتى لو كانت "طرطيرة" كما تسمى في تبوك, أو مرادفاتها في المدن الأخرى.
بيد أني قصدت مما كتبته عن وضع سيارات الأجرة, إثارة الموضوع, لعل معاناة الناس وهمومهم وجراحهم تصل إلى من يعنيهم الأمر, وتحرك فيهم شعور الغيرة على المواطن الفقير الذي لا يستطيع امتلاك سيارة, ولا يجد أمامه وسيلة ينتقل بها غير هذه الخدمة, رغم تكلفتها وسوئها, ومعاناة الناس في الحصول عليها!!
أرجوكم لا تقولوا إن الحافلات الخاصة (الكوستر وما هو أسوأ منها) موجودة وتسهم في توفير النقل على سوئها, لأن ذلك سيثير لدى المواطن أسئلة مرة: هل تتوافر على مدار الساعة, وهل تغطي المدن والشوارع كافة؟ وهل تصل إلى الأطراف؟ كما هو مفهوم النقل العام؟ّ! الأجوبة نعرفها من المشاهدة اليومية لهذه الخدمة, وهي تركيز على شوارع معينة تزداد فيها الكثافة البشرية, والعمل فقط خلال ساعات الذروة, حين دخول وخروج العمالة من وإلى أعمالهم, أما غير هذا فليس ثمة التزام بشيء من شروط وضوابط النقل العام ومفهومه, وحتى آدابه وسلوكياته, بل إن هذه الوسيلة تشترك مع سيارات الأجرة في التمرد على النظام والتنظيم والسلوك الحضاري, وما يلتزم به الغير من قواعد المرور, وتشكل, مع تلك, مظهرا يسيء إلى سمعة البلاد, ويهدد أرواح العباد, بالوقوف المتعمد في أي مكان, حتى لو كان وسط الشارع لالتقاط الركاب, فضلا عن الوقوف المتكرر المفاجئ, والسرعة والمخالفات المرورية, ناهيك عن حالة السيارات ووضعها ونظافتها, التي تشعرك وكأنك في أكثر البلدان النامية تخلفا, ولست في بلد يقود العالم النامي اقتصاديا ودينيا وتقدما كما نحسب, ومن هذا المنطلق فإنه لا يسوغ اعتبار هذا العنصر من عناصر النقل العام بمفهومه الشامل!!
سأعيدكم إلى الوراء قليلا, أيها القراء الكرام, في لمحة تاريخية عن وضع النقل العام لدينا, فقبل إنشاء الشركة السعودية للنقل الجماعي, منذ 30 عاما, كانت هناك شركة مرخصة للنقل العام, ولكنها اندثرت ربما بسبب قلة سكان المدن وقلة العمالة آنذاك, ثم قامت على ذكرياتها الشركة الحالية, كشركة مساهمة عامة تملك الحكومة نسبة 30 في المائة من رأس مالها, بقصد أن تكون الحكومة شريكا فعليا لتوفير عوامل الثقة والاطمئنان لمساهميها, وفوق ذلك, ولإثبات جدية الحكومة في دعمها, فقد ضمنت لمساهميها حدا أدنى من الأرباح التزمت بمقتضاه بتسديد أي خسارة أو عجز يتحقق في ميزانيتها, إلى جانب الربح المضمون, ودفعت الحكومة بناء على ذلك, مئات الملايين لهذه الشركة كإثبات ووفاء بالتزاماتها.
والتاريخ يشهد بأن الشركة نزلت إلى الشوارع بقوة العازم على تنفيذ التزامه, بحافلات صغيرة وكبيرة وذات طابقين, تجوب الشوارع في خطوط مبرمجة ومرسومة ومنتظمة على مدار الساعة, وفق ما يلزمها بذلك عقد الامتياز المبرم معها, بيد أن الشركة واجهت تحديا لا قبل لها به من قبل الحافلات الخاصة, يتمثل في تعديها على حقوقها في الامتياز, والتقاط الركاب من نقاط التجمع الخاصة في الشركة, والمواقف التي هيأتها على نفقتها, وأصبح الراكب يفضل الحافلات الخاصة, لا لشيء, عدا أنها تقف في المكان الذي يريد, بعكس حافلات الشركة التي تلتزم بمسارات ومواقف محددة, وشيئا فشيئا, وجدت الشركة نفسها تواجه منافسة شرسة بعيدة عن التكافؤ وأخلاقيات العمل, بين الفوضى وانعدام التنظيم, والتقاط الركاب من أي مكان, وبين الالتزام بالتغطية الكاملة المنتظمة, ومع مرور الوقت بدت حافلات الشركة شبه فارغة, وأصبح ذلك مجالا للتندر والاستغراب, ولجأت الشركة إلى الحكومة مطالبة بتمكينها من ممارسة حقها الذي منحته لها, وذلك بإخراج أي وسيلة نقل جماعي من الخدمة.
والمتتبع لتاريخ هذا المرفق يقر بأن السلطات ذات العلاقة في الحكومة, كوزارة النقل (المواصلات سابقا) وجهاز المرور, حاولت مرارا تمكين الشركة من تنفيذ ما التزمت به, ومن ذلك منح الحافلات الخاصة مهلة بعد أخرى تنتهي باستهلاك الحافلات وانتهاء العمر الافتراضي لها, بحيث لا تمنح أي تراخيص جديدة بعد ذلك, حماية للشركة صاحبة الحق, والتي يمكن لأي مواطن, بما في ذلك أصحاب الحافلات الخاصة, المساهمة فيها, غير أن تلك المحاولات باءت بالفشل بما فيها محاولات الشركة ذاتها, المتمثلة في عرضها السخي بشراء كل الحافلات. وتعيين أصحابها سائقين في الشركة براتب مجز (أتذكر أن العرض كان ثلاثة آلاف ريال), ولكن ذلك كله لم ينفع أمام تدفق معين العاطفة الذي أودى بمصلحة البلاد, وجعلها تتربع على عرش الفوضى المرورية, وفراغ النقل العام, بعد أن أدى الأمر في الشركة إلى سحب حافلاتها رويدا رويدا من شوارع المدن, وأصبحت لا ترى منها شيئا, حيث تركتها ميدانا لسباق الحافلات الخاصة, ومعتركا للوافدين من كل صوب, يتعلمون القيادة في شوارعنا, ويستعرضون فنون الجهل والقفز, بعد أن ساعدتهم الظروف, وساعدناهم نحن في الحصول على السيارات كما يحصلون على ساعة اليد, في بلد يعد أرخص مكان في العالم لامتلاك سيارة!!
والنتيجة فتاكة, كما يقال, تتمثل فيما تعانيه الدولة والحكومة ممثلة في أجهزة المرور والأمن والأمانات والسجون وجهات الادعاء والمحاكم وما يعانيه المواطن قبلها من كم هائل من السيارات تزجّ بها المصانع من كل صوب, وتعج بها المدن, وتغصّ وتختنق بها الشوارع, تموج وتتناطح في معارك مشتعلة, الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود, لا يأمن فيها الرجل على نفسه وعائلته حين تخرج إلى مدارسها وقضاء حاجاتها, بألا تعود!!
وإذا استمر الحال على حاله, فإن كل مواطن ومقيم, ممن لا يملكون سيارات, سيبحث عن أي وسيلة لامتلاك السيارة, خاصة أمام انتشار ظاهرة البيع بالتقسيط, التي لم تترك فنا من فنون الخدع والحيل, لاصطياد الناس إلا وسلكته, حتى أصبح شعارها الثابت في إعلاناتها اليومية: بدون, بدون, بدون, ثم لا تتورع في تذييل تلك الإعلانات بعبارات مثل (يجب أن يتفق ذلك مع شروط الشركة)!!, أليس ذلك كفيلا باصطياد الفقراء, ودغدغة أحلامهم في امتلاك السيارة, تحت وطأة الحاجة إلى وسيلة نقل خاصة, أمام انعدام وسائل النقل العامة؟! .. الأمر الذي أدى إلى اختلاط اللحم بالعظم بالحديد, في معارك تسيل فيها الدماء صباح مساء, تحولت من جرائها الشوارع والساحات إلى مقابر جماعية لرفات البشر, وركام السيارات, وكأنها تذكرنا بقول أبي العلاء المعري:
خفّف الوطْ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
والذي لو كان حيا لربما أضاف (وركام السيارات).
والله المستعان, وهو من وراء القصد.