اقتصاديات طب الحشود البشرية (1 من 3)
في المقالة الماضية (طب الحشود البشرية: هل هو مجال طبي جديد؟) التي نشرت بعيد انتهاء مؤتمر طب الحشود البشرية الذي أقيم في جدة، تم تسليط الضوء على حدث مهم وخدمات تقدمها المملكة كل عام، دون كلل أو ملل كإحدى مسؤولياتها العظام. إلا أن التساؤل كان عما إذا كان الاهتمام بصحة ضيوف الرحمن وهم في أكبر تجمع بشري على وجه الأرض يمكن أن يتحول إلى تخصص دراسي يراد منه فهم أبعاد التجمع ومحاولة تأمين السلامة للجميع، حشوداً ومقدمي خدمات، لأداء النسك دون عناء أو تكبد مشقة أو التعرض لما يعطل هذه الشعيرة. في هذه المقالة سيكون الطرح مناقشة اقتصاديات هذا التخصص إذا ما أريد له أن يكون كما اقترح قبل وخلال جلسات المؤتمر المفعمة بالمعلومات الغزيرة تاريخيا وطبيا، إضافة إلى بعض النواحي الإدارية.
من المعروف أن من أهم عوامل نجاح أي مشروع تشترك في تقديمه مجموعة من الجهات أو الأجهزة هو تكامل أدوارها في الأداء والتوافق في القيام بالعمل خطوة بخطوة، وتحت مظلة واحدة. إلا أن من أكبر التحديات التي يمكن أن تواجه مثل هذا المنحى في الشأن الصحي، هو احتواء التكاليف وتقديم الرعاية الصحية اللازمة بكفاءة. إن حسن توجيه الميزانية للإنفاق على الخدمات الصحية للخروج بتوازن عدة مؤشرات مثل نوعية الخدمة الصحية المقدمة وتكاليف تقديمها ورضاء المستفيدين عن الخدمة، ليعني الوفاء بالالتزام نحو الفرد بتنفيذ مواد النظام الأساسي للحكم (المادتان: السابعة والعشرون والحادية والثلاثون) وتحقيق الأهداف المرسومة لهذا القطاع بأجهزته المختلفة. وبما أن التجمع الذي يضم أفرادا وجماعات من أكثر من 180 دولة يأتون إلى أطهر بقعة في الأرض في كل عام، أصبح أكبر مسؤولية تقوم بها المملكة على مر العقود الطويلة فإن الحرص على أدائهم مناسك الحج والعمرة في أمن وسلام وصحة وعافية أولوية تستدعي البذل والسهر والعطاء لعودة ضيوف الرحمن إلى أوطانهم وقد تحقق لهم ما نووا.
إن هذه الجموع أو الحشود البشرية إذ تجتمع في موقع واحد وتؤدي المناسك في توقيت موحد، تقوم على خدمتها جهات متعددة مختلفة المهام والموارد. هذه الجهات تسعى حثيثة إلى إن تحقق في النهاية إعلان حج ناجح نظيف وسلس خال من الأمراض والحوادث، مع إمكانية حدوث الإصابات ونقل الأمراض المعدية بين الجماعات في أي موسم وبأي وسيلة تتيح ذلك. في النهاية ما يهم هو أن تكون هناك أطقم بشرية مدربة وأجهزة جاهزة ومحدثة وأساليب عملية متنوعة ومقننة تعمل على إجادة تقديم الخدمة في جميع المواقع فتقلص حجم الأضرار وتحتوي التكاليف بشكل منهجي، وتعكس صورة مشرفة لبلد شرفها الله بهذه الخدمة الفريدة.
إن دراسة البعد الاقتصادي في طب الحشود البشرية بلا شك موضوع حديث ومعاصر، ولكن التعامل مع الحشود في حد ذاته كان وما زال حدثا يتوارثه سكان مكة المكرمة والمدينة المنورة وهم يقومون بتقديم هذه الخدمة لضيوف الرحمن منذ بداية إقرار الحج كشعيرة وكأحد الأركان الخمسة. ما يهمنا أن نتناول في جديد هذا الموضوع كل ما يمكن أن يفكر فيه المسؤول عن أحد أجهزة القطاع الطبي, أو اقتصادي متمرس, أو باحث متمكن, أو أكاديمي ذو خبرة, أو مفكر مطلع حول ماهية اقتصاديات الصحة بشكل عام. ثم من بعد ذلك ما يخص هذه الجموع ويمكن أن يعود على جميع الأطراف المعنية بما فيها الحاج أو المعتمر نفسه بالمنفعة والسلامة. أما من ناحية الفترة والمكان فيمكن تجزئتهما إلى ما يتعلق بالعمرة، حيث تكون المواقع الأكثر ازدحاما الحرم المكي والحرم النبوي الشريف، إضافة إلى أسواق المدن وخلال العام بأكمله. في حين أن ما يتعلق بالحج، فمنطقة المشاعر موقع آخر يضاف إلى المعادلة وتوقيت الأداء مدة ليست محدودة جدا في ساعات بل في أيام, والتنقل مشكلة مضافة إذا ما ركزنا على أنماط انتشار الأمراض المعدية بين المجتمعين وفي المناطق بأسرها (مكة المكرمة والمدينة المنورة). أما مؤسسات الطوافة والتزاماتها حيال الحجاج إضافة إلى البعثات الطبية المرافقة لكل بعثة حج قادمة من كل دولة إسلامية، فالدور كبير ومتواتر إذا ما نزلنا إلى أرض الواقع.
إذا كان طب الحشود البشرية تخصصا يراد له الانتشار والبقاء ليكون بعد عقدين أو ثلاثة من الزمن راسخا ومتينا وله أسسه, ويقوم عليه علماء برعوا في تناول أبعاده سواء من الأطباء, أو الأكاديميين الاقتصاديين, أو العاملين في العلوم الطبية المساندة أو التطبيقية، فلابد أن ينظر إليه من أبعاد أساسية عدة أهمها: (1) تحسين التعامل مع البيانات تقنيا والاعتماد عليها في كل صغيرة وكبيرة لفهم ما نريد أن نتعامل معه في وكل وقت قبل وخلال وبعد الموسم. (2) التركيز على العمل النوعي مع أن تقديم الخدمات الصحية في عصرنا هذا يقع تحت رحمة الكم لزخم الزيارات العادية والمفاجئة وزيادة وقوع الحوادث بأشكالها المختلفة. (3) تأهيل أكبر عدد ممكن من القوى البشرية في التخصص للعمل بجودة أداء تكفل صناعة القرار بثقة عالية لا مركزيا، وليتمكنوا من إحداث التغيير بشكل مستمر طبيا واقتصاديا وإداريا. (4) استمرار القيام بالأبحاث لتطوير الأداء بشكل مستدام, ولبقاء الخدمات الصحية والصرف عليها متوازيين لا ينفكان عن بعضهما بعضا، خصوصا أن تقديم الخدمة لفترة محدودة من دون أن تكون هناك متابعة شهرية لمريض بالسكر, أو علاج دائم لمريض بالزهايمر, أو علاج أسبوعي لمريض بالسرطان. وللحديث بقية.