تغيير اتجاه الاستثمار بالأسهم

لو تصورنا قطارا منطلقا بسرعة فائقة بين أحراش خضراء وبحيرات غناء تحت سماء زرقاء تزينها غيوم بيضاء وأن راكبي هذا القطار منتشين في عرباتهم يمتعون أنظارهم بالمناظر الخلابة تتسلل إلى أسماعهم أنغام موسيقية تتهادى بنعومة تتخللها ضحكات مرحة من هذا المقعد أو ذاك، وأنهم لشدة استمتاعهم يتمنون أن تطول الرحلة، لكان هذا الوصف أقرب إلى الحالة التي كان عليها حماس الناس لتجارة الأسهم في الشهور الماضية، لكن ركاب القطار فوجئوا به يفرمل, على حين غرة, سرعته دفعة واحدة, فإذا هم يتقافزون من مقاعدهم يصطدمون ببعضهم البعض مذهولين فيما خرجت بعض العربات عن الخط وتساقط آخرون متناثرين على جانبي الطريق.
لقد قيلت تحليلات وتعليلات كثيرة عن دواعي وأسباب ومسببات ما حدث، على شاشات الفضائيات وفي الصحف وفي مواقع الإنترنت حتى إنه لم يبق من مزيد للقول لكي أضيفه. وما يعنينا هنا هو الدروس المستفادة مما عاناه الناس من تلك الانتكاسة وآثارها التي من المهم تحويل سلبياتها إلى إيجابيات، فما حدث لأسهمنا، على سوئه، لسنا استثناء فيه، فهي انتكاسة تحدث في أسواق العالم، لكنها حين حدوثها هناك لا تسحب ذيولها السلبية على إيقاع اقتصاد بلدانها، لأن ثمة تأطيرا هيكليا لتلك الاقتصادات تنأى بالبورصة عن أن تطغى على النشاطات الاقتصادية المختلفة.
على أن ما يهم هنا هو الضرر الذي أحاق بالناس جراء تعاملهم مع قنوات الاستثمار المختلفة وما تعرضوا له من صدمات مريرة محزنة خلال السنوات الماضية فقد اندفعوا إلى المساهمات العقارية وتبخرت نقودهم في فضاء خرائط مخططات وهمية وأراض هلامية ومن وجدوا غرماءهم سئمت منهم أروقة المحاكم والمحظوظ منهم ظفر بتسوية اختصرت حقه بجزء منه.
كذلك حصل الأمر مع شركات الوساطة وشركات تشغيل الأموال، فقد وقع الناس في حبائل النصابين والمحتالين واختلط الأمر عليهم فلم يميزوا الصالح من الطالح وأسقط بأيديهم التي امتلأت بوصولات ورقية لا تسمن ولا تغني من جوع بقدر ما أورثتهم نكدا وتركتهم موزعين بين حلم استرداد نسبة من أموالهم وبين التأقلم مع الجراح.
في ظل هذه التجارب، وفي ظل ما يشاع عن ضخامة السيولة وفي ظل برامج ومشاريع التنمية التي تم تخصيص أموال إضافية لها، وفي ظل التسديد للدين العام، وفي ظل انفتاح شهية العالم لاستثمارات في بلادنا، قد يكون من المهم إدارة دفة تجارة الأسهم إلى دروب أكثر أمانا وأجدى بحيث يتم الاحتفاظ بالمواطنين لكيلا يذهبوا بأموالهم إلى الأسواق المالية المجاورة وذلك بتوجيههم للاستكتاب في مشاريع حيوية كبرى، صناعية أو تقنية أو خدمية كالمصانع والمصافي والقطارات أو الطرق السريعة أو تحلية المياه وشبكاتها يعلن عنها وتمول عن هذا الطريق الذي من شأنه أن يجنب الناس مخاطر تبخر أموالهم في حمى المضاربات ويضمن لهم عوائد مجزية لكون هذه الأموال مستثمرة في أصول حيوية في صلب التنمية الاقتصادية الوطنية.
بل إن عملية الاستكتاب في هذه المشاريع ستوفر تمويلا لها من الداخل يجنب بلادنا مغبة الاقتراض من الخارج بفوائد عالية تتكبدها بنوكنا أو إدارات تلك المشاريع، علاوة على أن استكتاب الناس في مثل هذه المشاريع الحيوية سيعني وجود مشاريع كبرى تحت الإنشاء, ستفتح فرص وظيفية كثيرة وتنعش حركة الاقتصاد وتجدد دورته من خلال احتياجها لمواد الإنشاء والنقليات والتجهيزات والخبرات، وسوف تتعمق وتتوسع هذه العلاقات الاقتصادية عندما تقف هذه المشاريع على أقدامها وتبدأ الإنتاج.
أقول ذلك في ظل وجود مقترحات مشاريع كبرى لدى الهيئة العامة للاستثمار، كما أن الجهات الحكومية والغرف التجارية والقطاع الخاص لديها أيضا أفكار مشاريع مهمة جدا، والأمر يقتضي المبادرة إلى توجيه دفة الاستكتاب في الأسهم إلى وجهة هذه المشاريع الحيوية بعد دراسة جدواها الاقتصادية دون إبطاء أو مماطلة.
هذا الطرح نادى وينادي به كثيرون، ولو سارعنا إلى تبنيه لأسدينا لأموالنا العامة والخاصة حصانة استثمارها فيما هو باق لصالح الوطن والمواطنين ولوضعنا اقتصادنا في سياق استثماري جسور لليوم والغد يحقق لنا هدف تحويل سيولتنا المالية إلى أصول تنتج عوائد مجزية وفرص عمل وتخلق أصولا جديدة تجعل من حديث الطفرة واقعا لا أرقاما يسعد بها المؤشر أو يخسف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي