تطوير برنامج الابتعاث الخارجي
أصبح الابتعاث الخارجي من أجل مواصلة التعليم الجامعي والحصول على الشهادات العلياء كالماجستير والدكتوراه، ظاهرة مُتميزة. وبدأ ابتعاث خريجي المدارس الثانوية إلى خارج منطقة الشرق الأوسط في أواخر الخمسينيات الميلادية، خاصة إلى الجامعات الأوروبية والأمريكية، واستمر سنوات طويلة حتى أصابه الركود لفترة ما. وكان اختيار الطلاب للبعثات الخارجية في ذلك الوقت يعتمد على جودة التحصيل العلمي، ومعظمهم كانوا من أوائل الطلبة، ولذلك كان البرنامج على وجه العموم ناجحا بكل المقاييس. وكان برنامج الابتعاث يتضمن التحاق الطلاب بدورات خاصة تُنظمها الجامعات هناك لكل مجموعة حتى يجتازوا مصاعب لغة الدراسة، إضافة إلى أنه في ذلك الزمن كانت الملهيات أقل مما هو حاصل اليوم، كوجود أنواع وسائل الاتصال مثل الجوالات والإنترنت والأقمار الصناعية التي توصِّل محطات التلفزيون لمسافات بعيدة، وأغلبية تلك الوسائل تغري بضياع الوقت على الطالب المغترب.
وخلال السنوات الأخيرة ارتأت حكومة خادم الحرمين الشريفين إعادة فتح باب الابتعاث الخارجي على نطاق أوسع مما كان عليه في المراحل السابقة، وشمل عدة بلدان جديدة وبأعداد كبيرة وصل إلى عشرات الألوف من الطلبة، لمرحلتي ما بعد الدراسة الثانوية والدراسات العليا. ويظهر أن اختيار طلاب الجامعات الحالي لا يخضع لمستوى مرتفع من التحصيل العلمي، كما كان في الماضي، وربما أنه يعتمد في الدرجة الأولى على المقابلة الشخصية وقبول الطالب في إحدى الجامعات المُعترف بها عند وزارة التعليم العالي. وإلى هذا الحد والأمر مقبول، لكن الملاحظ أن طلبة الابتعاث الجديد يذهبون إلى البلدان الأجنبية من دون أي نوع من الإعداد اللغوي والأكاديمي, الذي أصبح ضروريا اليوم، ما يُسهِّل على الطالب الانخراط في الدراسة الجامعية مباشرة. ومن المؤكد أن إرسال الطلبة بالطريقة الحالية دون تأهيل كاف أثر في تقدُّم واندماج كثير منهم في الدراسة. ونحن نعلم أن لدى الوزارة مكاتب منتشرة في أوساط الجامعات التي يدرس فيها الطلاب السعوديون. وربما أن المسؤولين هناك يبذلون قصارى جهدهم من أجل الإشراف المباشر على دراسة ونشاط كل طالب، لكن ذلك لم يكن كافياً بسبب كثرة عدد الطلاب وقِلة خبرة معظم المشرفين، وغياب الإعداد الأكاديمي قبل مغادرة المملكة. إلى جانب كون عدد كبير من الطلاب الذي يتقدمون لطلب الابتعاث ربما لم يكونوا مؤهلين للالتحاق بجامعات أجنبية تحتاج الدراسة فيها إلى مجهود كبير. ونخشى أن يكون نسبة كبيرة من أولئك الطلاب ممن لم يحصلوا على قبول في الجامعات المحلية لضعف في مستواهم العلمي، ومع ذلك يشملهم نظام الابتعاث.
وكان من الأفضل لو أن الجهات الرسمية المسؤولة عن برامج الابتعاث أعدَّت برامج خاصة للطلاب الذين يتم قبولهم وتقوم عليها مؤسسات وطنية مُتخصصة، تشمل تعليمهم اللغات الأجنبية التي سيتلقون تعليمهم بها، إلى جانب بعض العلوم الأساسية مثل الرياضيات والكيمياء، حتى يكون لدى الطالب من المعرفة والثقة بالنفس ما يُساعده على الالتحاق بالدراسة مباشرة دون عوائق تقف أمامه في بلاد الغربة وهو لا يزال قليل الخبرة. وستكون لهذه المؤسسات أو المعاهد العلمية فوائد كثيرة, فهي أولاً تعمل على تأهيل الطلاب المُجِدِّين، الذين يتفوقون أثناء هذه الدراسة الأولية، للابتعاث الخارجي، وفي الوقت نفسه، فإن الطلاب الذين لم يسعفهم الحظ للنجاح يكونون هم أيضا قد استفادوا واكتسبوا مهارات علمية ولغوية تؤهلهم لشغل مراكز أفضل داخل المملكة أو الالتحاق بجامعات خاصة، داخلية أو خارجية، على حسابهم الخاص. ومن المُؤكد أن قيمة عقود هذه الدراسة التأهيلية لن تكون أكثر من المبالغ التي تصرفها الدولة على طلاب الابتعاث خارج المملكة خلال المدة المساوية لتلك التي سيقضونها في المعاهد المحلية. وأهم شيء يجب أن يُراعى في برامج التدريس هو اختيار المعلمين من ذوي الكفاءات العالية ومدرسي اللغات من أهل اللغة أنفسهم مهما كلف ذلك من المال حتى تكون النتيجة ـــ بإذن الله ـــ مضمونة.
وهناك مؤسسات أكاديمية وشركات صناعية تُطبِّق هذه الفكرة بنجاح تام، بعد تجارب طويلة مع برامج الابتعاث. وليس أقرب إلينا مثالاً من ما تُقدمه جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في مدينة الظهران لطلابها المستجدين خلال سنة كاملة من التعليم المُكثف في اللغة الإنجليزية وعلوم الرياضيات والكيمياء. ويأتي ذلك بعد اختيار دقيق للطلبة المتقدمين. والذين لا يستطيعون اجتياز الاختبارات النهائية لا يسمح لهم بدخول الجامعة. وقد رفع هذا الإجراء الصارم وطريقة اختيار الطلاب من مستوى خريجي هذه الجامعة المتميزة.
ولدى شركة أرامكو السعودية تجارب طويلة مع الابتعاث الخارجي أدت إلى تبني الشركة برامج مشابهة لما هو معمول به في جامعة الملك فهد. فالشركة أيضا تختار المرشحين للابتعاث بعناية فائقة بحيث يكون الاختيار عن طريق الكمبيوتر، دون تدخل من أي جهة كانت في الشركة، وذلك حسب مؤهلات الطالب وتحصيله العلمي. ثم ينتظم الطلاب في دراسة اللغة وبعض المواد العلمية لمدة عام كامل. ولا يُقبل الطالب للابتعاث إلا بعد الحصول على درجة النجاح. وقد مرت شركة أرامكو السعودية بتجربة لم تكن مُوفَّقة في نهاية السبعينيات الميلادية، عند ما كانت ترسل آنذاك أعداداً من الطلاب إلى الجامعات الأمريكية بعد إنهاء الدراسة الثانوية مباشرة. وكانت النتيجة أن بعضهم لم يستطع الانتظام في الدراسة الجامعية لعدم وجود الإعداد الكافي فكانت الشركة تضطر إلى إعادتهم إلى المملكة. ومنذ ذلك الوقت ونظام الابتعاث في الشركة مرتبط بقضاء سنة تحضيرية في مرافق التدريب في الظهران, حيث حقق التنظيم الجديد نجاحا كبيرا، إلى جانب المتابعة الدقيقة والمهنية من قِبل مسؤولي التدريب في "أرامكو" المنتشرين حول الجامعات التي يدرس فيها الطلاب.
نحن نُبدي مرئياتنا واقتراحاتنا في الوقت الذي نعلم فيه أن المسؤولين عن برامج الابتعاث الخارجي أصبح لديهم كم هائل من التجارب والخبرة مع المبتعثين خلال السنوات القليلة الماضية، مما سيُساعدهم على اتخاذ القرارات المناسبة حيال الدفعات القادمة من الطلاب الذين يرغبون في الالتحاق ببرامج الابتعاث. ونود أن نسمع عن مخططات جديدة وفاعلة ترفع من مستوى طلابنا قبل أن يُسمح لهم بمغادرة وطنهم وأهليهم إلى بلاد الغربة وهم غير مؤهلين تأهيلاً كاملاً للدراسة الجامعية.
ويلاحظ المرء قلة عدد الجامعات الأهلية داخل المملكة رغم العدد الكبير لخريجي التعليم الثانوي والتحاق الألوف من أبنائنا وبناتنا بجامعات الدول المجاورة من أجل الحصول على التعليم الجامعي هناك رغم مشقة السفر والابتعاد عن الأهل. فلو كان لدينا المزيد من المؤسسات التعليمية الأهلية لفضلوا الدراسة قريباً من ذويهم، وعلى وجه الخصوص البنات.