معضلة ما قبل التنمية
عندما تنوي الدول النهوض بمجتمعاتها وتنمية اقتصاداتها وتحفيز صادراتها، فإنها تبدأ مباشرة بإعداد الخطط وبناء الاستراتيجيات، ومن ثم العمل على إكمال البنية التحتية، وتطوير التعليم، ودعم الجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها من المتطلبات الأساسية، إلا أن الهدف يظل بعيدا وتحقيق التنمية يبقى حلما إذا لم يُسبق بمهمة ما قبل التنمية.
هناك مهمة عظمى ووظيفة أسمى يتعين على الدول إنجازها وربط حلقاتها وسد ثغراتها قبل البدء بخطط التنمية ومسيرة النهضة، ألا وهي ما يُطلق عليه البعض " ترميم البيت الداخلي"، أو ما يفضل بعض مهندسي التنمية تسميته "ردم الفجوات وقبول الاختلافات"، أي لحم البنية الاجتماعية وبناء جسور العلاقات بين الفئات المتباينة، واحترام الاختلافات الثقافية والمذهبية، وإخماد وهج النعرات لجعل البلد متماسكا داخليا. بمعنى أوضح ترسيخ الانتماء إلى الوطن وليس إلى دين بعينه أو عرق أو طائفة.
الدول التي قطعت شوطا في التنمية وقفزت قفزات هائلة، لم تبدأ بتطبيق البرامج والخطط والاستراتيجيات وتفعيل الشراكات مع الغير وإكمال البنية التحتية، إنما بدأت بترميم البيئة الداخلية، وصهر المجتمع في قالب واحد يتمثل في الوحدة الوطنية الحقيقة. والأمثلة نراها بوضوح في كل من ماليزيا والهند وكوريا الجنوبية في آسيا، وأيرلندا في أوروبا.
وعملية "ترميم البيت الداخلي" للدول ليس بالأمر الهين، خصوصا إذا كانت تتألف من أديان متباغضة وطوائف متناحرة وأعراق مختلفة .. فكيف تجعل كل هؤلاء يندمجون تحت لواء واحد، وفي ظل وطن واحد يقبل بعضهم بعضا، ويحترم بعضهم بعضا، وفي الوقت نفسه يبقون مختلفين في الدين والطائفة والعرق؟
ولقد فطن إلى ذلك نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يبني دولته وينشر عقيدته ويبلغ رسالة ربه، فآخى بين المهاجرين الذين أتوا من خارج المدينة، والأنصار أهل البلاد الأصليين، وردم الفجوة بين أعداء الأمس - الأوس والخزرج ـ وبرز قانون جديد يحدد العلاقة بين الناس، ومعيار مختلف يقيس صدق الانتماء ودرجة الولاء، ولم يعد للنعرات المقيتة والمصالح الشخصية أي وجود. بعدها بدأت الدولة الفتية تشق طريقها إلى المجد بوحدة لا تتصدع، وبعلاقات لا تنفصم، وكل يستطيع العيش، وليس بالضرورة أن يدين بالدين الجديد، فسلسلة حروبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن مبتغاها إرغام الناس على الدخول في الإسلام، لكن من أجل تبليغ رسالة الله حتى تصل إلى الناس كافة.
كما تبناها مهاتير محمد مهندس التنمية والقفزة الماليزية، مؤلف كتاب "معضلة المالايو". لقد أدرك مهاتير أن لب المشكلة ليس في دقة تطبيق برامج وخطط التنمية، فأي معتوه يسعه عمل ذلك، لكن المعضلة تكمن في الوحدة الوطنية لمجتمعات مختلفة، وأديان متناحرة، وأعراق متباينة، خصوصا أن التركيبة السكانية لماليزيا معقدة، فالمالاويون (يتحدر منهم نسب ماليزيا)، يمثلون ما يقرب من نصف عدد السكان، يليهم الصينيون بنسبة 26 في المائة، ثم الهنود بنسبة 8 في المائة، ونسبة ضئيلة يمثلون أعراقا مختلفة. أما من الناحية الدينية، فالأمر أكثر تعقيدا، حيث يمثل المسلمون الأغلبية بنسبة 60 في المائة، يليهم البوذيون ثم المسيحيون فالهندوس بنسبة 6 في المائة، هذا إضافة إلى الاختلافات الطائفية والمذهبية في كل ديانة.
لقد كان هذا الاختلاف العرقي والديني والثقافي يقض مضجع عبقري التنمية الماليزية مهاتير محمد، فكيف يتم ربط هذه الاختلافات، وردم هذه الفجوات لبناء اللُحُمة الوطنية، فهو يعلم تماما أنه إن لم تتم اللُحُمَة فلن تتحقق التنمية؟ فقام بعدة أمور من أبرزها الإيعاز لكل فئة بأن لها الحق في أن تحتفظ بخصوصيتها وتمارس طقوسها، لكن إن أرادت ذلك، فعليها أن تحترم بقية الديانات والأجناس والطوائف، وتظل المساهمة الوطنية حق الجميع. ويجب أن يعلموا أنهم إن لم يأتلفوا فسيخسرون جميعا. فمن حق المسيحيين أن يمارسوا شعائرهم كما يحلو لهم، لكن يجب أن يحترموا الأقلية الهندوسية، كما يجب على المسلمين ألا ينتقصوا من المسيحيين. وللبوذي الحق في الرجوع إلى مرجعيته في الهند أو اليابان أو الصين، فرغم أنه ماليزي الجنسية إلا أنه بوذيي الديانة، ويجب أن يقبله الجميع بهذه الثنائية.
من المهم أن تكون مواطنا قبل أشياء كثيرة، وحتى تكون كذلك عليك أن تحترم من يشاطرك المواطنة وتقدر معتقده فهو شريكك في النجاح والرفاهية، وبذا برعت ماليزيا في المزج بين الدين والتنمية، أي لم يكن الدين عائقا لها في بلوغ الرفاهية الاقتصادية. فقد كانت قبل عقدين من الزمن تصنف من الدول الأقل نموا، كالصومال وبنجلادش. وكانت تصدر المطاط والقصدير، وينتشر مواطنوها عمالة رخيصة الثمن في دول الجوار كسنغافورة وتايلاند، وهاهي الآن دولة صناعية أكثر من 80 في المائة من السيارات التى تجوب شوارعها صناعة ماليزية، ونسبة البطالة لا تتعدى 3 في المائة، كما تمتاز بفنها المعماري الساحر وبنظامها الإبداعي الأخاذ.
ونريد أن نختم كما بدأنا فنقول إن تجاوز مهمة ما قبل التنمية بنجاح أهم مرحلة تمر بها الدول، فإن استطاعت إنجاحها بفاعلية فما دونها أهون، فالخطط الاستراتيجية للبرامج التنموية لن يكتب لها النجاح إن لم يتم التأكد، أولا وقبل كل شيء، من بناء جسور العلاقات بين الفئات المتباينة، واحترام الاختلافات الثقافية والمذهبية. وهذا يتطلب الوقوف بحزم وتعرية وتهميش الذين يؤلبون الانقسامات والكراهية لمصالح شخصية.