حرب التغيير في الشرق الأوسط .. الفاعلون كثر والأهداف متقاطعة
ويجد الناظر في أوضاع المنطقة أن كل شيء فيها في حالة حراك، فتركيا تقوم بدور دبلوماسي صاعد وفاعل، وتعيش مصر حالة من الغليان الهادئ، والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز يقوم بجولة في المنطقة، بغية تهدئة الأوضاع في لبنان والبحث عن مخارج، والرئيس بشار الأسد يرى أن احتمالات الحرب في المنطقة باتت أكبر مع غياب أي أفق للسلام فيها، وفي السياق ذاته يتوقع العاهل الأردني نشوب حرب جديدة إن لم يتم التوصل إلى حلّ الدولتين مع نهاية الصيف الحالي، فيما يعيش لبنان حالة من التحضير لمواجهة عاصفة قادمة. أما اليمن فقد عاد إلى حالة من الصراع الداخلي والفوضى، ويحضّر النظام الإيراني نفسه للمعركة، بعد أن تخلت عنه روسيا وإلى حدّ ما الصين، لأن كلاً من روسيا والصين والهند وقوى أخرى راحت تحضر نفسها للحصول على الأفضل من وراء المشادات والتوترات في المنطقة، وبالتالي، ووفقاً لجميع التقديرات الاستراتيجية والتحليلات، فإن جائحة التغيير في الشرق الأوسط بدأت تقترب، نظراً لأن كل المقدمات المطلوبة باتت متوافرة، حيث الفاعلون كثر والأهداف متقاطعة وعديدة.
البوابة الإيرانية
ازدادت في الآونة الأخيرة المعلومات والتسريبات حول إمكانية توجيه ضربة إسرائيلية لإيران، خاصة بعد عودة بنيامين نتنياهو من الولايات المتحدة، وحصوله على ما يشبه الموافقة الأمريكية "في حق إسرائيل في القيام بالإجراءات المناسبة للدفاع عن أمنها"، الذي يفسره القادة الإسرائيليون بحقهم في شن الحروب والاعتداءات، لكن هناك من يعتبر احتمال أن توجه إسرائيل والولايات المتحدة معاً ضربة ضد إيران قد ازداد في هذه المرحلة، نظراً لأن الإدارة الأمريكية زادت، في مدّة قصيرة نسبياً، عدد مجموعات حاملات الطائرات المعدة لمواجهة إيران بمعدل ثلاثة أضعاف، وسرّعت عملياتها السرية داخل إيران واستعداداتها لاتخاذ عمل عسكري ضدها، حيث قامت القوات الجوية الأمريكية والإسرائيلية بتدريبات مشتركة على مواجهة التفجيرات المحتملة، ولا تشعر الولايات المتحدة، التي تشكل تحالفاً جيوستراتيجياً دولياً ضد إيران بثقة كافية بقدرة إسرائيل على القيام بمثل هذا العمل.
من جهتها، لا تستطيع إيران تحمّل وجود القوات الأمريكية على حدودها البرية والبحرية، وهددت أكثر من مرّة بالرد العسكري في حال تعرّض سفنها أو طائراتها للتفتيش، طبقاً لما نصّت عليه العقوبات الدولية التي فرضت عليها أخيرا، لذلك فهي تردّ على الولايات المتحدة من خلال زيادة توتير الأوضاع في كل من العراق وأفغانستان، وتقويض الجهود الأمريكية فيهما، بغية تحويل الاهتمام الأمريكي عنها من التحضير للهجوم إلى الدفاع. ويبقى أن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران سيكون له تداعيات وإرهاصات كثيرة وخطيرة في المنطقة. لكن إسرائيل تريد الحفاظ على التفوق العسكري وامتلاك قوة الردع، بوصفها جزءاً أساسياً من عقيدة أمنها، وهذا عائد إلى طبيعة الكيان الإسرائيلي، الذي قام أساساً على مبدأ القوة، والقناعة الإسرائيلية بأن هناك حاجة دائمة إلى هذه القوة للاستمرار، وأن أية هزيمة يتعرض لها الكيان تشكّل تهديداً وجودياً له. وبناء عليه، فإن إسرائيل تبقي نفسها على استعداد دائم للحرب، وبالسيناريو الأسوأ، وتتبنى نظرية الضربة الاستباقية أو الوقائية، لاحتواء أي خطر استراتيجي بالنسبة لها قبل تعاظمه، وتنظر إلى البرنامج النووي الإيراني بوصفه خطراً عليها، لذلك يدفع قوى اليمين المتشدد في الداخل الأمريكي من أجل ضرب إيران، وتشاركها أوساط اليمين الداعم لها في أن ذلك سيؤدي إلى انهيار النظام السوري، أو على الأقل إلى إضعافه، وبالتالي إضعاف حزب الله وتجريده من سلاحه، بواسطة حملة عسكرية إسرائيلية جديدة، متزامنة أو لاحقة للعملية العسكرية الأمريكية ضد إيران، الأمر الذي سيمكن إسرائيل، حسب اعتقادهم من الثأر من حزب الله وهزيمته، نظراً لأن قدرة حزب الله على المواجهة في ظل غياب حليفيه الاستراتيجيين ستكون محدودة، حسب تقديرهم.
ويرى الساسة الأمريكيون أن التأثير الرئيس لأية حملة عسكرية لن يكون عسكرياً فقط، ذلك أن المعركة الحقيقية ستكون معركة إقناع الشعب الإيراني والإسلامي والمجتمع الدولي على نحو أوسع. ويبدو أن الولايات المتحدة يمكنها أن تحقق إجماعاً دوليا متعاظما، خاصة بعد التحول الذي طرأ على الموقف الروسي، وتجد سندا لمخططاتها في الجانب الأوروبي، حيث أقر الاتحاد الأوروبي يوم الإثنين الماضي، واحدة من أشد رزم العقوبات الدولية على إيران، واستهدفت قطاع الطاقة الإيراني، وقطاع النقل الجوي والبحري، وحركة التبادل التجارية، وتجاوزت حتى ما أقره مجلس الأمن الدولي من عقوبات في حزيران (يونيو) الماضي، وما فرضته واشنطن نفسها أيضاً، وهي خطوة تترجم ما طالب به وزير الخارجية البريطاني ويليام هيج الشهر الماضي، من "تعزيز الدور الأوروبي في الملف النووي الإيراني". وقد يجد الرئيس باراك أوباما في مثل هذه التطورات، التي تهز الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط، وتعطيه حيوية لدفع عملية المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتمكنه من إرغام نتنياهو على القبول بالتسوية السلمية.
سيناريوهات عديدة
هناك بعض السيناريوهات المتشائمة التي تتنبأ بأن تشن إسرائيل حرباً واسعة تشمل سورية ولبنان، وذلك على خلفية التهديدات المتكررة التي أطلقها المسؤولون الإسرائيليون، وآخرها التهديد الذي وجهه الثلاثاء الماضي من واشنطن، وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، إلى الحكومة اللبنانية بضرب المؤسسات اللبنانية وضرب أي هدف يتبع لها، والحجة هي سماح الحكومة اللبنانية لحزب الله بمواصلة التسلح. وكانت سورية على لسان وزير خارجيتها قد حذرت إسرائيل من أن أي حرب قادمة ستنقل إلى المدن الإسرائيلية، ومنذ أيام صرح الرئيس السوري في الأرجنتين بأن احتمالات الحرب زادت في هذه المرحلة. وبالتزامن مع الحديث الإسرائيلي حول نشر حزب الله صواريخ في قرى الجنوب اللبناني، تحدث الجنرال غابي أشكنازي، رئيس الأركان العامة الإسرائيلية عن حرب محتملة في نهاية الصيف الحالي في لبنان، وتزامن كلامه مع تحركات قوات اليونيفيل وقامت بإجراء مناورات على التدخل في القرى والمدن في الجنوب اللبناني تحسباً لإطلاق الصواريخ. وصرح كذلك الجنرال جادي إيزنكوت، قائد المنطقة الشمالية، عن حتمية اندلاع حرب في الشمال على الجبهة اللبنانية، وتشمل أيضاً الجبهة السورية.
ولا شك في أن التحركات الإسرائيلية في المرحلة الراهنة، تنطلق في إطار استعداد إسرائيل الفعلي لحرب مقبلة، وما التصريحات والتهديدات والاتهامات التي يطلقها كبار المسؤولين فيها، وتتناقلها وسائل إعلامها إلا مواد لصناعة الذرائع بغية شن الحرب. ويدخل في الإطار ذاته الإجراءات والاستعدادات العملية على الأرض، على الحدود مع سورية ولبنان، حيث حشدت إسرائيل قوات عسكرية في مواجهة الجبهتين، يفوق حجمها ما حشدته إسرائيل عشية شنها حرب عام 1967، إضافة إلى قيامها بسلسلة من التدريبات والمناورات العسكرية، وتحضير وتجهيز الجبهة المدنية، من خلال سلسلة من المناورات والتدريبات الشاملة.
عبثية الوضع العراقي
على الرغم من إعلان الولايات المتحدة مراراً أنها لن تؤخر انسحابها المبرمج والتدريجي من العراق، الذي سينتهي في بداية عام 2012، فإن القوى السياسية فشلت في التوصل إلى صيغة ائتلافية مقبولة لدى الجميع، وقادرة على ضبط تدهور الأوضاع والفوضى التي ألمّت ببلاد الرافدين بعد الاحتلال وتقويض دعائم الدولة وتمزيق مكوناتها. ويبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية، التي ورثت كارثة الحرب وإرهاصاتها وتداعياتها عن إدارة بوش السابقة، عاجزة عن إيجاد استراتيجية بديلة، وتلجأ إلى ترداد حجة تلقي بها مسؤولية الحرب على الحزب الجمهوري وصقوره، وما أسفرت عنه من دمار وفوضى، وتحاول بواسطتها التنصل من المسؤولية الدولية والقانونية والسياسية والأخلاقية والاكتفاء بمطالبة الميليشيات بالإسراع في تشكيل الحكومة.
ويظهر أن الانتخابات الأخيرة لم تنقذ العراق من ورطته، بل زادها تمسك المالكي برئاسة الوزراء، في ظل الفلتان الأمني. وشكّل الاختلاف على تشكيل حكومة، بعد مرور أربعة أشهر على الانتخابات النيابية، ظاهرة على تأكيد انتفاء المشترك والقاسم بين القوى السياسية العراقية، وعلى أن انهيار الدولة المركزية، أفضى إلى بعثرة الهوية العراقية، ونشأت على أنقاضها دويلات تعتاش على الدمار والخراب، ويصعب توحيدها تحت قبة العراق الموحد.
وتوسم العراقيون خيراً حين توجه مقتدى الصدر إلى دمشق والتقى فيها إياد علاوي، ثم جرى لقاء بين المالكي وعلاوي، وبحث معه تشكيل حكومة ثنائية وتوزيع المقاعد بالتفاهم مع التحالف الكردستاني. ولم تفض هذه اللقاءات إلى ما يتمناه عامة العراقيين، حيث الأحزاب ضائعة في اتخاذ مواقف حاسمة، وتلجأ إلى لعبة المقايضة على موقع الرئاسة، وعلى اقتسام المواقع والمناصب السيادية، وعلى اقتسام العراق ونهبه. ويعكس هذا اللهو العبثي الأزمة العامة في العراق، الذي تحول إلى ساحة مكشوفة، يستحيل معرفة تحولاتها الداخلية، من دون معرفة امتدادات الطوائف الإقليمية، ودور إيران ودول الجوار في التأثير فيها، ومعرفة موقع أطرافها في إدارة معادلة تفتقد بنى وقواعد يمكن البناء عليها، وبالتالي، فإنه من المرجح أن تكون النتيجة مأسوية، في ظل استقواء القوى السياسية العراقية بعباءات ومظلات خارجية، تلعب دورها الخاص في إعادة تشكيل العراق، نحو مزيد من العنف والدمار والتآكل الناجم عن الاقتتال على الغنيمة من جانب والدعم الخارجي من جانب آخر.
الوضع اللبناني
لا شك في أن الأوضاع في الداخل اللبناني تتأثر بشكل كبير بالمتغيرات الإقليمية والدولية، وعليه فإن الاختلاط في الأوراق اللبنانية يمكن قراءته في ظل ذلك، مع عدم إنكار جملة العوامل اللبنانية، التي تمتلك دورها الخاص في مسرح لعبة الطوائف. وشهد لبنان هدوءاً بعد اتفاق الدوحة، ثم بدأ أخيرا ما يشبه عملية إعادة تموضع سياسي للقوى السياسية الفاعلة فيه، 8 و14 آذار، وذلك بفعل التأثيرات المحيطة به، سواء الساخنة منها أم الباردة.
أما اليوم، فإن الحديث عن دور المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري يتصاعد في لبنان مجدداً، حيث هناك تسريبات من المحكمة تفيد بأنّ الاتهام سيوجّه إلى أعضاء في "حزب الله" بالمشاركة في تخطيط عملية الاغتيال وتنفيذها في 14 شباط (فبراير) عام 2005, وذلك بعد أن استدعوا كشهود، وأعلن الأمين العام السيّد حسن نصر الله رفضه القاطع الاتهام، واعتبر الاتهام بمثابة محاولة إسرائيلية للنيل من الحزب، وطالب بإحالة شهود الزور إلى المحاكمة، وكشف من وظّف هؤلاء ومن حرّضهم ومن دعمهم أيضًاً. وعلى خلفية ذلك بدأ الوضع في لبنان ينحو باتجاه التوتر والاحتقان، الأمر الذي استدعى قيام الملك عبد الله بن عبد العزيز بجولة، لتهدئة الأوضاع والبحث عن مخارج تمنع دخول لبنان في طاحونة الصراع والاقتتال المذهبي.
ولا يخرج التوتر القائم مع القوات الدولية في الجنوب اللبناني عن نطاق بعث الاضطراب في الوضع اللبناني, وتحديدًا بشأن سلاح "حزب الله" ومخابئ هذا السلاح، وحول "حق" القوات الدولية في منع ذلك استنادًا إلى القرار 1701.
وهناك أحاديث عن تخوف قوى 8 آذار من المصالحة والتقارب متسارع الخطوات بين القيادة السورية وقوى 14 آذار، حيث تتحسس بعض أطيافها من هذا التقارب، الذي أثمر زيارات عديدة ومتلاحقة لرئيس الوزراء سعد الحريري إلى دمشق، والنجاح الكبير الذي حققته زيارته الأخيرة، من خلال التوقيع على 17 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين البلدين، وإذا أضفنا إليها تغير التحالفات واختلاط أوراق فريقي 8 آذار و14 آذار، فإن ذلك يقدم مؤشرات تشي بوجود هواجس تثير قلق القوى السياسية اللبنانية، وتهز الرموز التي أسست سياستها على ثوابت، خاصة بعد بروز تطورات تقدم صورة معاكسة للمشهد اللبناني الذي استقرت عليه الأوضاع اللبنانية قبل خمس سنوات مضت. وهناك تخوف لدى بعض قوى 8 آذار، من أن تكون ضحية صفقة إقليمية، تأخذ في الاعتبار موقع الدولة اللبنانية كإطار ناظم لقنوات الاتصال بين سورية ولبنان.
خلاصة القول أن أوضاع المنطقة مهددة باحتمالات وسيناريوهات كثيرة، والمطلوب هو العمل على بناء تفاهمات عربية، يمكنها أن تواجه الأخطار المحدقة ببلداننا العربية، ولا شك في أن طريق المصالحات العربية التي بدأها الملك عبد الله بن عبد العزيز يمكنها أن تتطور إلى تفاهمات وتنسيق عربي مطلوب بشكل ملح في مرحلتنا الراهنة.