قراءة في المستقبل: من سيحكم الاقتصاد العالمي؟
هل ستستمر سيطرة الغرب على مفاصل الاقتصاد العالمي خلال المستقبل القريب أو البعيد؟ هل ستبقى الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا ودول غربية أخرى المحدد الرئيس لمسيرة الاقتصاد العالمي؟ ماذا عن ظهور قوى اقتصادية أخرى في العالم كالصين والهند والبرازيل وغيرها من دول الاقتصادات الناشئة؟ مارتن وولف الكاتب في جريدة ''الفاينانشيال تايمز'' يستعرض كتاباً حديثاً بعنوان ''عدم القدرة على التحكم'' Losing Control لـستيفين كينج كبير الاقتصاديين في بنك إتش إس بي سي، الذي يقدم فيه رؤيته حول ما يحدث في الاقتصاد العالمي، ويرى أن صانعي القرار الاقتصادي في الغرب يعانون عدم فهم المتغيرات الحالية، وأنهم ما زالوا يتوهمون أنهم يمسكون بزمام الأمور ويصنعون الأحداث، بينما الأحداث هي التي تحركهم وتصنعهم.
لا يعني استعراض هذا الكتاب بناءً على ما قدمه وولف في مقالته تأييد ما ورد فيه، لكن من المهم استعراض وجهة نظر أخرى غير وجهة النظر السائدة، لإثراء التفكير الاستراتيجي حول مستقبل الاقتصاد العالمي. تجب معرفة من سيحكم هذا الاقتصاد، ومن سيوجهه، ومن سيصنع قراره في المستقبل؛ كي نتمكن من التعامل مع هذا الواقع المستقبلي بشكل أكثر فاعلية. بداية يرى كينج أن الغرب يعتقد خطأ أن سيادته جاءت بناءً على فاعلية مؤسساته، وتقدمه العلمي والتكنولوجي، لكن في الواقع فإن بلوغ الغرب ما بلغه جاء بناءً على سلب الموارد المادية والبشرية في العالم، وبناء على احتكار التقنية ورأس المال، بينما في الوقت نفسه الجزء الآخر من العالم كان منفصلاً عن إنتاجية العالم من خلال كبح القدرة على الإبداع، أو من خلال العنف الذي أسهم الغرب في تأجيجه في هذه المناطق من العالم.
هذه الطريقة من التفكير لدى الغرب، وهي أنه بلغ ما بلغ من خلال مؤسساته ومن خلال قوى السوق، تجعله ينقاد إلى استنتاجات خاطئة، وبناءً على ذلك يبني سياسات خاطئة. مثلاً، ما زال الغرب يعتقد أنه من يحدد أسعار الفائدة في العالم، في حين أن الآلة الصناعية في الصين ودول الاقتصادات الناشئة تسهم بشكل كبير في تحديد أسعار الفائدة في العالم. كذلك فإن الأسعار في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة، تتحدد بناءً على العرض والطلب من السلع الصينية، فكلما زاد الطلب عليها ارتفعت الأسعار في الولايات المتحدة وفي الغرب والعكس صحيح. ما يريد كينج إيصاله ـ حسبما أفهمه ـ أن تكلفة رأس المال لم يعد الغرب يحددها لأنه يفتقدها في الأساس، وبالتالي فإنه لا يلعب الدور نفسه الذي لعبه في السابق في تحديد تدفقات رأس المال. بل إن القوى الاقتصادية الناشئة الآن تلعب دوراً أكبر في ذلك، ومثال ذلك الدور الذي يلعبه رأس المال الصيني في إفريقيا.
وهنا بالتحديد فيما يتعلق بتدفقات رأس المال، فإن دولة رأس المال وليست الأسواق، هي التي تحدد الآن وجهة تدفقات رأس المال تماماً كما تفعله الصين والدول الأخرى ذات الفائض في توجيه تدفقاتها الرأسمالية، وبالتالي تحدد بشكل غير مباشر تكلفة رأس المال، ومن ثم أسعار الفائدة. من خلال الاتفاقيات الاستثمارية الثنائية أصبحت هذه الدول تملك تأثيراً كبيراً في القرار الاقتصادي العالمي لا يقل بكثير عما كان يفعله الغرب في السابق عندما كان يحتكر رأس المال والتقنية. كذلك، بدلاً من أن يكون العالم النامي معتمداً بشكل كبير على الغرب، فإن العكس تماماً يحدث الآن. فمن ناحية، تعتمد الآلة الإنتاجية للغرب على العمالة من العالم النامي وبشكل متزايد، كما أن العوائد من استثماراتها في الدول النامية أصبحت تمثل نسبة كبيرة من عائداتها، والمحصلة النهائية اعتماد متزايد للغرب على العالم النامي لا العكس.
دلائل هذا الاعتماد المتزايد والقوة الاقتصادية النامية للدول النامية تظهر عند قراءة مؤشرات أربع دول من دول الاقتصادات الناشئة فقط، هي: الصين، البرازيل، الهند وروسيا أو ما تسمى الـ BRICs. حيث يقدر أن يمثل حجم هذه الاقتصادات بحلول عام 2050 حجم جميع الدول الغنية في العالم، كما أنها تمثل ما نسبته 40 في المائة من سكان العالم، وربع مساحة الأرض في العالم. إضافة إلى ذلك فإن التقديرات تشير إلى أن الدول النامية ستمثل ما نسبته 50 في المائة من الناتج المحلي العالمي في أقل من عقد من الزمان، وهي ما سيزيد من تأثيرها في الاقتصاد العالمي، وفي الوقت نفسه سيقوض القوة الاقتصادية المهيمنة للغرب. السؤال هو: هل يمكن لهذه الدول أن تستمر في تحقيق النجاحات والنمو اللذين حققتهما خلال الفترة الماضية؟ وكيف يمكن لها أن تحقق ذلك؟ وكيف سيتعامل الغرب مع هذه الحقائق؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ـ حسبما أرى ـ هي التي ستحدد المستقبل الجديد للاقتصاد العالمي، وليس ما يراه وولف أو ستينج.