رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مرجعية لا تورث وسماحة إسلامية لا يختلف عليها اثنان

النشأة والمواقف
ولد السيد محمد حسين فضل الله في مدينة النجف في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1935. وبدأ دراسته للعلوم الدينية في سن مبكرة جداً، وتتلمذ على أيدي كبار أساتذة الحوزة آنذاك. وكان أبرزهم المرجعين أبو القاسم الخوئي ومحسن الحكيم. ثم تحول إلى أستاذ للفقه والأصول في الحوزة العلمية الكبرى في النجف. وعاد إلى لبنان في عام 1966، فأسس حوزة "المعهد الشرعي الإسلامي"، وراح يلقي فيه الخطب والمحاضرات، ويهتم بالشأن الاجتماعي والإنساني، حيث أسهم في إنشاء عدد من الجمعيات الخيرية، ومنها مبرات الأيتام المنتشرة في مناطق عدة لبنانية.
وفي أوائل ثمانينيات القرن الماضي أصبح مرجعاً لحزب الله اللبناني، بعد أن شارك مع غيره من رجال الدين في اللقاءات التي أفضت إلى تأسيس هذا الحزب. وتعرّض فضل الله لمحاولة اغتيال عام 1983، حيث فجرت سيارة مفخخة قرب منزله، وأدت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى. وفي عام 1991، وبعد انتخاب عباس الموسوي أميناً عاماً للحزب، خلفاً للشيخ صبحي طفيلي، اختلف فضل الله مع حزب الله حول تبنيه مبدأ "ولاية الفقيه"، الذي اعتمده الحزب في إطار العلاقة الوثيقة التي تربطه مع إيران. ونظراً لأن فضل الله ابن النجف ومؤمن بمرجعيتها، وليس بمرجعية "قم"، فإن الخلاف مع حزب الله خرج إلى العلن، وترتبت عليه تباينات سياسية وعقائدية، لكنه حافظ على مسافة معينة مع الحزب، بحيث لم يصل الخلاف بينهما إلى حدّ القطيعة والافتراق، ومنذ ذلك الحين تحوّل فضل الله إلى مرجع مستقل، وتفرّغ للأمور الفقهية والدينية، وكان إنتاجه الفقهي والفكري غزيراً.
وأطلق عليه بعض الأنصار والمقربون من حزب الله لقب "أبي بكر الضاحية"، بعد الفتاوى التي أصدرها، وتحرّم الانقسام بين المسلمين، وتحرّم شتم الصحابة. لكن مواقفه الحكيمة لم تقف عند هذا الحدّ، بل إنه رفض إبان الاقتتال بين حزب الله و"حركة أمل" إصدار فتوى تجيز القتال ضد حركة أمل، حيث قال في ذلك الوقت: "إن هذه الفتوى تحتاج إلى رقبة دسمة لتحتملها وهذا ما لا أملكه"، الأمر الذي أثار غضب المتشددين الشيعة ضده. وبعد ذلك، زاد غضبهم عليه حين طالبوه بالتراجع عن فتوى أصدرها تحرّم شتّم الصحابة، لكنه أصرّ على صحة فتواه، ومنذ ذلك الوقت أطلق بعضهم عليه لقب "أبي بكر الضاحية".
وتميز السيد فضل الله بالجرأة في طرح آرائه وأطروحاته الفقهية، وبانفتاح على التطور العلمي وعلى تفسير الإسلام، حيث أفتى بجواز اعتماد علم الفلك والأرصاد في إثبات بدء شهر رمضان وإثبات انتهائه، في وقت لا تزال فيه المؤسسات والمرجعيات الدينية الإسلامية في العالم تلتمس رؤية القمر بالعين المجردة لإثبات ذلك، وكان ينظر إلى ذلك اليوم الذي يصوم فيه جميع المسلمين العرب في نفس الوقت ويفطرون سوياً في الموعد نفسه. كما أفتى بتحريم "جرائم الشرف"، وكذلك تحريم ختان الإناث، معتبراً أنه "ليس لأولياء الأمر القيام بما ليس فيه مصلحة المرأة"، وأن "ختان النساء ليس من السنن الإسلامية". وكان مناصراً لحقوق المرأة في إطار الشرع الإسلامي.
وأكد في أكثر من مناسبة على وحدة الإسلام والمسلمين، وأن ما يلتقي عليه المسلمون السنة والشيعة في الجوانب الفقهية يصل إلى مستوى 80 في المائة، وطالب المسلمين، سنّة وشيعة، بأن يستوحوا تلك المرحلة التي عاش فيها الخلفاء الراشدون، لأن مسألة الاختلاف في الإمامة والخلافة، تبقى مسألة تاريخية، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، و"أرسل جبريل الأمين ليحمل الرسالة إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من يعتقد غير ذلك هو منحرف عن الإسلام كله".
وتنطلق المسألة الكلامية الخلافية بالنسبة إليه من بحث فلسفي إسلامي، مثل قضية الحسن والقبح العقليين، الذي لا يراه الأشاعرة ويراه المعتزلة والإمامية، وهي مسائل علمية كلامية يمكن أن تُحلَّ بالبحث العلمي الموضوعي المعمّق، بعيداً عن الحساسيات الذاتية التي يحاول كل فريق من خلالها اتّهام الفريق الآخر بالضلال أو الكفر أو ما إلى ذلك.
وحول مسألة العروبة، رأى أنَّ العروبة لا تمثِّل انحرافاً عن الخط الإسلامي، لأنه عندما نزل الإسلام في البيئة العربيّة، لم يشعر العرب بوجود أيّة مشكلة فيما يطرح عليهم منه، لذلك آمنوا به، واحتضنوه، وساعدوه، وانفتحوا عليه، وأعطوه، وأخذوا منه، لأنّ العروبة هي حالة إنسانية، وبالتالي تمثل العروبة ذلك الإطار الذي يبحث عن الصورة، وكان الإسلام هو الصورة لهذا الإطار. لكن حين انطلقت الدعوة القومية، قالت إنّ العرب فوق الجميع، كما كان الآريّون يقولون إنّهم فوق الجميع، ثم بعد ذلك تأدلجت العروبة، حيث دخلت فيها الاشتراكية والماركسية، ما جعل المعارضة للماركسية والاشتراكية وليس للعروبة، لذلك فإنّ العروبة بحسب بعدها الإنساني، لا مشكلة من النَّاحية الإسلامية معها، وإنّما المسألة هي في الأيديولوجية التي أُدخلت في قلب العروبة.
واعتبر فضل الله أنّ المسلمين الشّيعة العرب ليسوا تابعين لإيران بالمعنى السياسي أو بالمعنى الديني، بل هناك من يؤيِّد إيران وهناك من لا يؤيّدها، أمّا مسألة الصّفوية، فهي لا تثبت أمام الواقع، لأنّ المسلمين الشيعة العرب مخلصون لأوطانهم.

العلاقة مع إيران
لم تكن علاقة السيد فضل الله مع إيران ومرجعيتها في أفضل الأحوال، بل عرفت توترات واختلافات، حيث يرجع جوهر اختلافه مع إيران إلى طرحه نفسه كمرجعية شيعية مستقلة خارج الحوزات الإيرانية، وإلى رفضه مبدأ "ولاية الفقيه". وقد شنّ المتشددون في إيران حرباً على فضل الله، واتهموه بمحاولة طمس الهوية الشيعية ومجاراته للمملكة العربية السعودية، ووصل الأمر إلى حدّ دعوة آية الله الخرساني المؤمنين الشيعة لإسقاطه، معتبراً "إن قتله لن يجدي، وإنما سيجعل أفكاره أكثر شهرة"، واتهمه آخرون بالارتداد عن المذهب الشيعي لتحريمه الإساءة إلى الصحابة وسبهم.
ونظر فضل الله إلى "ولاية الفقيه" بوصفها نظرية علمية، اختلف فيها الفقهاء، ولعل أغلب علماء المسلمين الشيعة لا يقولون بها، فلا يرون للفقيه ولايةً عامة على مستوى ما يقرب من الإمامة والخلافة. واستند في ذلك إلى أن أستاذه السيد أبو القاسم الخوئي الذي كان ينكر شرعية الولاية العامة للفقيه، ويوافقه على ذلك، من جهة عدم تمتع الفقيه بولايةً عامةً على المسلمين، إلا إذا توقَّف حفظ النظام العام للمسلمين على ولايته. ومع ذلك، لا بدَّ للفقيه من أن يستشير أهل الخبرة في كلِّ شؤون السلطة وكلِّ شؤون الحياة، لأنّه لا يجوز له أن يحكم من دون علمٍ ومن دون خبرة. وعليه، يرى فضل الله أنه في التجربة الإيرانيّة، بقطع النظر عمّن يوافقها أو يخالفها، فقد دعا الإمامُ الخمينيّ، وهو رجلٌ فقيه، إلى الحكومة الإسلاميّة، لكنه أجرى استفتاء شعبياً، سأل فيه الناسَ إنْ كانوا يريدون الإسلامَ أمْ لا يريدونه، وهل يريدون قانونًا إسلاميّاً أمْ لا؟ ثم أسّس مجلسَ الشورى، ومجلسَ الخبراء، ومجلسَ صيانة الدستور، وأكّد أنّ من حقّ الأمة ومجلس الخبراء أن يُسقطا الوليَّ الفقيه إذا فرضْنا أنه انحرف عن الخطّ. والوليّ الفقيه نفسُه يأتي بالانتخاب، الأمرُ الذي يعني أنْ لا فرضَ لديكتاتوريّةٍ أو وراثيّةٍ في هذا المجال.
وبخصوص المستجدات على الساحة الإيرانية، التي ظهرت في أعقاب إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد لفترة رئاسية ثانية، وتمخضت عن حركة اعتراضية واسعة من طرف الإصلاحيين، فإن فضل الله رأى فيها جزءاً أساسياً من الحياة السياسية الطبيعية، لولا دخول الولايات المتحدة الأمريكية على الخط وانتحالها صفة الحاضنة الثورية.
أما الحديث حول فتوى بمهادنة الاحتلال الأمريكي، وعن إمكانية وجود حوزة ناطقة، أي تلك التي تحثّ على مواجهة للاحتلال، وأخرى صامتة، أي مسايرة له، فإن السيد فضل الله اعتبر أن الفتوى تحتاج إلى نضج الظروف الملائمة، وأن المقاومة هي الأصل، لكنها ليست حماسة وانفعالاً، وأن الاحتلال نفسه سيفرض السلوك المقاوم، كخيار وحيد للدفاع عن النفس والكرامة الإنسانية. وكان لافتاً أن يستشهد بالتجربة الفيتنامية كنموذج في هذا السياق في أحد لقاءاته.

التأصيل والإصلاح
لم يسلم السيد فضل الله بالمؤسسات الدينية، حيث اعتبر أن ليس هنالك في الإسلام مؤسّسةٌ دينيّة، بل مثقفون دينيّون. بكلامٍ آخر، ليست هناك مؤسّسة مغلقة تعطي الكلمةَ الفاصلةَ التي تمثّل الحقيقةَ المطْلقة، بل إنّ المؤسسات الدينيّة (كالحوزات الدينيّة العلميّة مثلاً) هي مدارسُ لدراسة الدين في الكتاب أو السّنّة أو ما استنبطه المجتهدون في القواعد الفقهيّة والكلاميّة. وعليه، فإنّ أيّ مدرسة علميّة، دينيّةً أو غير دينيّة، تقبل احتمالات الخطأ والصواب، ومن الطبيعيّ جدّاً أن تتقبّل النقد. وهذا ما يلاحظ في الامتداد التاريخيّ لما يسمّى بـ "المؤسّسة الدينيّة،" إذ إنّ العلماء، سنّةً أو شيعةً، كانوا يناقشون بعضَهم البعض، ولذلك هناك أكثرُ من تفسيرٍ للقرآن. وربّما يَعتبر العلماءُ أنّ كثيرًا من الأحاديث والروايات "موضوعٌ" ولا يتناسب مع النصّ القرآنيّ بحسب ما يُفْهم منه، لأنّ كثيرين وضعوا الأحاديثَ التي تعكس تأييدَ التزاماتهم المذهبيّة المختلفة في هذا المجال. ولذلك، فإنّ التفسير بالمأثور، وهو ما ألّفه بعضُ الشيعة وبعضُ السّنّة، يخضع للعديد من التساؤلات، ولعدم الثقة به، لأنّه لا يتناسب مع الجوّ القرآنيّ والفهم القرآنيّ.
وأكد فضل الله أن التفكير في الدِّين، في مفهومه الأصيل الذي ينطلق من خلال القاعدة التي تحْكم مفاهيمَه وشرائعَه وحركيّتَه وأسلوبَه وأهدافَه، يجب أن يتوقف عند مسألة الأصالة الدينيّة. ذلك أنه من الطبيعيّ أنّ الدين، وخصوصًا الدين الإسلاميّ، انطلق من القرآن الذي يراه المسلمون كتابًا معصومًا ?لا يأتيه الباطلُ من بين يديْه ولا من خلفه? لأنّه كلامُ الله؛ ومن هنا يأتي بقداسته التي تضفي عليه الحقيقةَ المطْلقة، لذلك فإنّ المسألة، بالنسبة إلى التأصيل الدينيّ، هي أن ننطلق إلى المصادر الأساسيّة. لكنّ القرآن كلمات، وللكلمات حركيّةٌ في المعنى؛ فالكلمة حروفٌ تختزن المعاني. والكتاب هو الكلماتُ المقدّسةُ التي أوحى بها اللهُ سبحانه وتعالى، ومعنى الكتاب هو من الأمور البشريّة التي تتّصل بوعي الإنسان لامتدادات الكلمة في استعمالاتها، وفي حركيّتها. ومن هنا رأى أنّ المفسِّرين اختلفوا في تفسير هذه الآية أو تلك، وربما دَخَلَ بعضُهم في أجواء التخلّف لأنه حاول أن يفسّر الكلمةَ وفق خلفيّاته الثقافيّة التي قد تكون متخلّفةً في هذا المجال. وبخصوص كثرة الفتاوى والمفتين، فقد رأى أنه من الطبيعيّ أنّ يكون المفتي هو المجتهد الذي يمْلك الثقافةَ الإسلاميّةَ الواسعة في فهم الكتاب والسنّة، وفي تأصيل القواعد الفقهيّة التي تمكّنه بحسب ثقافته وأمانته الثقافيّة من استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها التفصيليّة. ولذلك فليس من حقّ أيّ شخصٍ كان أن يفتي.
أما مسألة "الإصلاح الدينيّ"، فقد اعتبر أنها قد توحي بمفهومٍ غير دقيق؛ ذلك لأنّ الدين لا يَختزن الفسادَ في ذاته لكونه شريعةَ الله. والإصلاح الدينيّ هو ما أفتى به كثيرُ من المسلمين، واجتَهد به كثيرُ من المجتهدين ممن كانت اجتهاداتُهم تابعةً لحجم ثقافتهم، أو كانت التزاماتُهم تابعةً لظروفهم. لذلك لا بدّ أن نَدْخل إلى واقع الثقافة الدينيّة التي تَجْمع كلَّ هذا الركام من الفتاوى الفكريّة، سواء على مستوى الفقه، أو على مستوى علم الكلام، أو على مستوى حركة المفاهيم التي تتّصل بالإنسان والحياة. وعليه، فإن القضيّة هي إصلاحُ الفكر الدينيّ لا الإصلاح الدينيّ؛ أي أنها قضيّةُ إصلاح الاجتهاد.
ورفض فضل الله قتال المسلمين مستنداً في ذلك إلى المعايير الأساسيّة التي جاءت في القرآن الكريم، الذي يؤكّد أنه لا يجوز أن تَقتل مسلمًا ولا مسالمًا. فالله تعالى يقول: ?ومَنْ يَقْتلْ مؤْمنًا متعمِّدًا فجَزاؤهُ جهنّمُ خالدًا فيها?؛ ويقول أيضًا: ?ولا تقتلوا النفسَ التي حَرّم اللهُ إلاّ بالحقّ?. كما أكّد النبيّ أنّ المسلم، كلّ مسلم، حرامٌ في دمه وعِرْضِه ومالِه وأهلِه. وبالعودة إلى الآية السابقة فإنها تؤكّد أنه لا يجوز قتل المسلمَ ?إلاّ بالحقّ?؛ والحقّ هو حالةُ الدفاع عن النفس، وحالةُ الدفاع عن المستضعَفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يجدون سبيلاً، وحالةُ مواجهة الذين يَقْطعون الطريقَ ويثيرون الفسادَ في الأرض بحيث يَختلّ نظامُ المجتمع كلّه. كما أن المسألة في الإسلام ليست أن تقتل الكافرَ بل أن تقتل كفرَه، وليست أن تقتلَ المجرمَ بل أن تقتل إجرامَه.
أخيراً، من الصعب حصر جميع مواقف وآراء اجتهادات السيد محمد حسين فضل الله، لأن المسائل التي تناولها كثيرة، وطالت مختلف الميادين، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذي سيملأ الفراغ الذي تركه غياب هذا المرجع، خصوصاً أنه قال إن المرجعية لا تورّث؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي