أوروبا: جدل حول إدارة الأزمة والضمانات المالية.. وسياسات التقشف هي الحل
تشهد مختلف الهيئات الأوروبية السياسية والاقتصادية جدلا متناميا حاليا حول صحّة الخيارات التي أقرتها الدول الأوروبية حتى الآن في إدارة الأزمة المالية والنقدية، التي باتت تتحول إلى أزمة اقتصادية وكل ما يحمله ذلك من تداعيات وخيمة محتملة على الصعيد الاجتماعي في القارة.
وأمام التعنّت الواضح الذي تبديه أسواق المال والمتعاملون الماليون عموما والمشككون في الخطوات المتخذة على الصعيد الأوروبي بدأت عدة أصوات أوروبية تشكك بدورها في قدرة المسؤولين الأوروبيين الفعلية على بلورة مخرج سريع للأزمة التي تتخبط فيه منطقة اليورو منذ اندلاع أزمة الديون اليونانية.
وتتمحور الاستراتيجية الأوروبية المتفق عليه رسميا منذ قمة شباط (فبراير) الماضي الاستثنائية على محورين رئيسيين وهما أولا تقديم ضمانات مالية هائلة لاستعمالها عند الضرورة لإنقاذ إحدى الدول المتضررة، وثانيا التوجه لاعتماد سياسات تقشفية صارمة لضبط الموازنات والحد من العجز العام.
وفيما رحّب المتعاملون والمستثمرون الماليون بالشق الأول من الإدارة الأوروبية للأزمة والخاصة بإرساء آلية الطوارئ الأوروبية وبمبالغ مالية طائلة فإن التشكيك الحالي يتعلق بإجراءات التقشف المتتالية التي باتت الدول الأوروبية تعلن عنها الواحدة تلو الأخرى استجابة لمطالب محدّدة من بعض الدول الأوروبية الحريصة على تعزيز الاستقرار النقدي بالدرجة الأولى وعدم التركيز على عاملي النمو وإنعاش الاقتصاد.
وتوجد ألمانيا في مقدمة هذه الدول والمتهمة حاليا بالسعي لفرض نواميس صارمة في مجالات الحوكمة الاقتصادية وخاصة بالنسبة للموازنات العامة والديون على حساب دعم الاقتصاد الحقيقي أي دعم الإنتاج والاستهلاك وتمكين العجلة الاقتصادية من تجاوز الأزمة الحالية. وتمكنت ألمانيا وبدعم مفتوح داخل الاتحاد الأوروبي من النمسا والسويد وهولندا من فرض منهج سلوك محدد على الدول الأوروبية الأخرى التي باتت تعلن عن تقليص حجم المصاريف العامة وإعادة هيكلة أنظمة التقاعد والحد من تكاليف الضمان الاجتماعي والتوجه إلى إحداث ليونة في سوق العمل أي خفض الرواتب.
ويرى عديد من المحللين الأوروبيين أنه لا يوجد تناقض في الواقع بين إرادة فرض ضوابط تعامل صارمة في منطقة اليورو والسعي لحفز الاقتصاد إذا ما توافرت الإرادة السياسية الضرورية لدى المسؤولين الأوروبيين وهي الهاجس الذي بات يساور بشكل جدي بروكسل وغيرها من عواصم التكتل. ويرى المراقبون أنه سيكون من الصعب على المسؤولين الأوروبيين أن يقنعوا المواطنين بمصداقية المشروع الاندماجي الأوروبي إذا ما ركزوا فقط وكما يفعلون حاليا على الشق الخاص بفرض مزيد من التقشف والضوابط النقدية الصارمة، رغم أن هذه الضوابط تعد في الوقت نفسه ضرورية على المدى البعيد وما يثير الانتباه حاليا هو التركيز الأوروبي على سرعة تنفيذ الاصطلاحات الهيكلية دون تقديم خطط موازية لإنعاش سوق العمل وحفز الاستهلاك وتشجيع دورة الإنتاج الصناعي. ويمثل هذا الجانب أحد أسباب تشكيك أسواق المال في تحركات الاتحاد الأوروبي واستمرار الضغوط على العملة الأوروبية.
وخلال التسعينيات بذلت الدول الأوروبية بشكل جماعي جهودا غير مسبوقة لتعزيز استقرار الأسعار على حساب سوق العمل وذلك تحت ضغط معايير ماستريخت للتأهل للانضمام للعملة الأوروبية. ووضع المصرف المركزي الأوروبي بإيعاز مباشر من برلين من مسألة التحكم في التضخم همه الأول في إدارة منطقة اليورو ما نتج عنه حالة انكماش شاملة في أوروبا حتى بداية العقد الحالي. وتتجه منطقة اليورو وحسب المحللين الاقتصاديين نحو ارتكاب نفس الخطأ حاليا بالتركيز على التحكم في الموازنات وضبط آلية الديون العامة للدول على حساب سوق العمل. ويواجه أكثر من 30 مواطنا أوروبيا حاليا البطالة بشكل رسمي وتتنامى عمليات التسريح الجماعية، فيما أعلنت اليونان وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا عن إجراءات تقشفية غير مسبوقة خلال الأيام الماضية.
وقال رئيس البنك الدولي دومنيك شتروس خان إنه ليس من الملزم بشكل تام أن تخفّض الدول الأوروبية نسبة العجز إلى مستوى 3 في المائة مع حلول عام 2013 كما تدعو إلى ذلك المفوضية الأوروبية ومن دون نقاش. وقال عالم الاقتصاد الأمريكي جوزيف ستغليتز الحاصل على جازة نوبل للاقتصاد في مقال نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية يوم السبت الماضي إن إجراءات التقشف الأوروبية ستتسبب في وقوع كارثة وإن أوروبا بحاجة إلى آلية لاجتثاث البطالة وليس لفرض التقشف.
واعتبر روبرت زوليك رئيس البنك الدولي من جهته في صحيفة "فاينانشيال تايمز" أن أوروبا بحاجة إلى مرونة وإلى النمو وليس إلى التقشف للخروج من دوامة الديون. ويوجد إجماع لدى غالبية خبراء النقد على أن الاتحاد الأوروبي لأسباب سياسة وخلافات بين قادته تعدد مراكز اتخاذ القرار يبدو مترددا في اعتماد خط واضح يجمع بين السعي للتوصل إلى استقرار نقدي فعلي وبين إرساء خطط طموحة للإنعاش الاقتصادي.
وطالما لم يتمكن الزعماء الأوروبيون من بلورة مثل هذه الاستراتيجية وعبر اعتماد خطط محددة لتوحيد الأنظمة الضريبية والحد من المنافسة المتفاوتة في السوق الداخلية وتنسيق الموازنات العامة وربما اعتماد موازنة اتحادية أوروبية والقبول بفرضية إعادة جدولة الديون أو حتى طرد إحدى الدول من منطقة اليورو عند الضرورة فإن المتعاملين وأسواق المال ستواصل ضغوطها على اليورو ودون هوادة.