هل يستعف صناع التفجير بمال الصدقة عن جرائمهم؟
هل ينقدح في ذهنك - أخي القارئ- أن عليك أن تتصدق بـ 360 صدقة كلما استيقظت صباح كل يوم؟
لا أعتقد أنه خطر في بالك أن تتصدق بهذا الكم الكبير من الصدقات هذا الصباح, وكل صباح, أليس كذلك؟
لنقف مع هذا الحديث الشريف الوارد في صحيحي البخاري ومسلم, الذي يتحدث عن السلامى, وهي عظام البدن ومفاصله, التي تتوزع في جسمك بمقدار 360 عظماً ومفصلا, فقد روى أبو هريرة ــ رضي الله عنه ــ أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال:(كل سلامى من الناس عليه صدقة, كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة, وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة) الله, الله, ما أعظم هذا الهدي النبوي الذي يهيئ النفس للإحسان في صباح كل يوم, ليبدأ المسلم يومه بعمل المعروف ببابه الواسع..! والنفس التي تتدرب على فعل المعروف ونفع الناس كل صباح, هل يمكن أن تسيء المعاملة يوماً ما, أو أن تقطب جبينها لأحد؟ فضلاً عن أن تتمرد على المجتمع, أو تستأسد عليه؟
ومن عظمة الحديث أنه لم يقصر الصدقة على المال كما قد يظن البعض, بل شمل بها كل صنائع المعروف, وهذا الحديث يعوِّد المسلم ويربيه على أخلاقيات عدة, منها:
1- نشر ثقافة الإصلاح في المجتمع المسلم, بحيث يكون همُّ الإصلاح هو الشغل الشاغل لذهن المسلم حين يصحو من نومه كل صباح, إذ اعتبر الشارع الحكيم العدل بين الاثنين صدقة, ومنها العدل بين الزوج وزوجته, والصديق وصديقه, وبين الجار وجاره.
2- غرس خلق إعانة المحتاج, بمفهوم الاحتياج الواسع لا الضيق, ولو كانت الحاجة متعلقة بركوب الراكب على راحلته, أو بحمل أمتعته عليها, حيث اعتبر الشارع من الصدقة أن تعين الرجل في دابته أو سيارته فتحمله عليها, أو ترفع له عليها متاعه..!! (هل ترقى لجان حقوق الإنسان لهذا الحس الأدبي؟).
3- تعميق أدب الحديث بين المسلم ومجتمعه ككل, حيث اعتبر الكلمة الطيبة صدقة, والتصدق بالكلمة ربما يكون أبلغ أثراً من التصدق بالمال.
4- تخفيف العبء على المسلم في عمله الصالح, بتذكير المسلم بالثواب على كل عمل وإن كان يسيرا, وقد اعتبر الشارع كل خطوة يمشيها المسلم إلى الصلاة صدقة. وهنا أتساءل: هل يحفز الشارع المسلم لصلاة الجماعة, ويخالف المسلم مقصود الشارع فيهبِّط همم إخوانه؟!
5- حفز همة المسلم على إزاحة الأذى عن الناس ولو كان حقيرا في نظر الناس, من أجل تعويد المسلم على ما هو أكبر, فتعويده على إزاحة العظم والشوكة عن الطريق يجعل درء المفاسد عن المجتمع خلقاً يتمتع به المسلم طوال حياته, ومن هنا ندرك السر وراء اعتبار الشارع إماطة الأذى عن الطريق صدقة..!
وإذا تصدق المسلم حين يطلع فجر كل يوم بهذه الصدقات ونحوها حتى تصل إلى 360 صدقة .. فهل سيكون هذا المسلم حينها جريئاً فعلا؟
أعني: هل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يعق والديه؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يسيء عشرة زوجته؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يمارس العنف على أولاده؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يكون فظاً غليظاً في معاملته لمجتمعه؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يغش في بيعه وشرائه؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يتلاعب بأموال الناس لحسابه؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يحتكر السلع الحاجية لمصلحة أرباحه؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يمارس التضليل لتضخيم أرصدته؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يسرب الشائعات ليحوز أسهما, أو يتخلص منها؟
وهل سيجرؤ هذا المسلم المتصدق أن يتخلى عن مسؤوليته والواجب المنوط به في وظيفته التعليمية والتربوية؟ كلا .. كلا..
إن الصدقة بمفهومها الواسع, تجسِّد في المسلم كل الأخلاق الفاضلة؛ ليكون مواطناً صالحاً وفياً. لكن هل يستطيع المسلم أن يتصدق كل يوم بهذه الصدقات كلها؟
كلا, ولهذا رأف به الشارع الحكيم, وفتح له باباً ينفذ إليه من باب الصلاة, والصلاة «الخاشعة» تهذب خلق المسلم وتنقيه من الشوائب, ولهذا جاء في إحدى الروايات الصحيحة لهذا الحديث (ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى) قال ابن حجر في الفتح:»صلاة الضحى تقوم مقام الثلثمائة وستين حسنة التي يستحب للمرء أن يسعى في تحصيلها كل يوم ليعتق مفاصله التي هي بعددها» ولكن مَنْ مِنَّا يواظب على صلاة الضحى كل صباح, أو كل ضحى؟
وعوداً على ذي بدء, أقول: إن صدقة المال ليست عبئاً يلقيه المسلم عن عاتقه, لكنه خلق كريم, ينبغي أن يتحرى مواطنه الصالحة.
وقد يقول قائل: إن الصدقة قد تقع في غير يد مستحقها, فيكتب للمسلم أجرها, كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: «قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة, فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية, فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية, قال: اللهم لك الحمد على زانية. لأتصدقن بصدقة, فخرج بصدقته فوضعها في يد غني, فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني, قال: اللهم لك الحمد على غني. لأتصدقن بصدقة, فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق, فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق, فقال: اللهم لك الحمد على زانية, وعلى غني, وعلى سارق, فأتي, فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت, أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها, ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله, ولعل السارق يستعف بها عن سرقته).
فأقول: هذا صحيح, لو وقعت في يد من قد يستعف بهذه الصدقة, كما لو وقعت في يد سارق محتاج. لكن ما ذا لو وقعت الصدقة في يد من يقتنص الفرصة ليصنع عملاً تفجيرياً, أو ليزعزع الأمن, ويزرع الخوف؟
وهنا نلحظ الفرق الكبير, فما يسمى اليوم «الإرهابي» لا يجنح لجريمته هذه لحاجته إلى المال كالسارق, أو كالزانية التي ربما تستغني بها عن زناها, وإنما يجنح لجريمته لجنوح فكري اشتط به, فأصبح يتقرب بهذا العمل لله, وهنا تكمن الخطورة, ولا تصبح الصدقة طوق نجاة, كما قد تكون للسارق وأشباهه.
ولهذا يجب الحذر فيمن يوزع صدقته ألا يضعها إلا في يد محتاج فعلا؛ لئلا تقع في يد من يتربص بها الإضرار بالفرد والمجتمع.
وقد وضع قرار هيئة كبار العلماء النقاط على الحروف, حين أصدر قراره بتحريم تمويل الإرهاب أو الشروع في تمويله, وأنه جريمة معاقب عليها شرعاً، سواء بتوفير الأموال أو جمعها أو المشاركة في ذلك، بأي وسيلة كانت, كما أجاد قرار الهيئة حين قطع الطريق على من قد يختطف هذا القرار ليمنع الصدقة في سبل الخير, حيث أكد قرار الهيئة أن تجريم تمويل الإرهاب لا يتناول دعم سبل الخير التي تعنى بالفقراء في معيشتهم، وعلاجهم، وتعليمهم لأن ذلك - كما في قرار الهيئة - مما شرعه الله في أموال الأغنياء حقاً للفقراء. وهذا كله من أجل ألا تصنف بعض الأعمال الخيرية على أنها داعمة للإرهاب, أو متولدة منه، وحتى لا يستغَل بعض ضعاف النفوس مثل هذا القرار في رمي أهل الخير مما هم منه براء، أو تأليب صناع القرار لتقويض أعمال خيرية بحجة الإرهاب وغوائله، ولهذا نجحت هيئة كبار العلماء حين دبجت القرار بتعريف الإرهاب, وأنه: «جريمة تستهدف الإفساد بزعزعة الأمن، والجناية على الأنفس والأموال والممتلكات الخاصة والعامة؛ كنسف المساكن والمدارس والمستشفيات والمصانع والجسور، ونسف الطائرات أو خطفها، والموارد العامة للدولة، كأنابيب النفط والغاز، ونحو ذلك من أعمال الإفساد والتخريب المحرمة شرعاً» ولئن أصابت الهيئة في تعريف الإرهاب فقد أخفقت بعض الدول حين لم تضع تعريفاً للإرهاب؛ لتوظف هذا الاسم الفضفاض لمصلحة أجندتها السياسية, فكان قرار الهيئة واضحا ومنصفا, في تعريف الإرهاب وتجريم صناعه ومموليه، واستحقاقهم لما تراه السلطة القضائية من عقوبة رادعة.