هل أخفق الاتحاد الأوروبي سياسيا؟
من المؤكد أن الوحدة الأوربية قد نجحت إلى حد ما في المجال الاقتصادي والتجاري بين أعضائها بفضل تعاون الجميع على تذليل معظم العقبات التي كانت مرتبطة بالظروف المحلية الخاصة بكل دولة، وذلك من أجل الصالح العام الذي كان المقصد الرئيس من تكوين هذا التجمع الإقليمي الكبير. وكان من الواضح منذ بداية الوحدة تغلُّب الرغبة في بناء مجتمع يضم الدول المتجاورة في القارة الأوروبية، على الرغم من تعدد اللغات واللهجات بين شعوبها واختلاف الثقافات الشعبية والحروب الطاحنة التي كانت عبر التاريخ تدور بين دويلاتها وقبائلها. وكانوا خلال بحث ومناقشة بعض الأمور المُعقدة يعقدون اجتماعات مُطولة ومُنهكة للتوصل إلى حل وسط يجمع بين وجهات نظر الأطراف المختلفة، وفي النهاية يتم الاتفاق والكل مُقتنع وراض بالنتيجة التي توصلوا إليها. ولعل أوضح دليل على نجاح وحدتهم الاقتصادية واستعدادهم للتعاون فيما بينهم مُسارعتهم لمساعدة الدولة اليونانية المُثقلة بالديون، على الرغم من الوضع المالي الهش الذي يسود العالم هذه الأيام وتوقع طلبات مساعدة مماثلة من بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل إسبانيا والبرتغال وربما آخرين.
وكان من المُتوقَّع أن يكون للاتحاد الأوروبي ثُقل سياسي أكبر مما هو مُشاهد اليوم، ودور بارز في السياسات الدولية وتأثير في مُجريات الأمور في المحافل الدولية وهو ما لم يحدث، مع وجود العناصر اللازمة لذلك من قوة اقتصادية وعدد سكاني كبير لشعوب مُتقدمة علميا وتكنولوجيا, حتى أنك لا تجد في كثير من الأحيان دولتين أوروبيتين تنتهجان سياسة خارجية مُوحدة حول قضية واحدة. وظاهرة لا تخفى على المراقب، وهي أن الاتجاهات والمواقف السياسية لبعض الدول الأوروبية تتغير باستمرار بتغير رئيس الحكومة. وكان من المُفترض أن تُكوِّن الدول الأوروبية كُتلة سياسية وعسكرية ضاربة تُنافس فيها الولايات المتحدة وروسيا والدول ذات العدد السكاني الكبير مثل الصين والهند التي هي في طريقها إلى البروز كدول مؤثرة في الصعيد الدولي. ولكن أغلب دول الاتحاد الأوروبي فضلت أن تكون تابعة للسياسة والنفوذ الأمريكي، بصرف النظر عن كون الحكومة الأمريكية تسير على طريق صحيح يخدم مصالحها القومية المشروعة أم أنها تسير وفق أهواء ومصالح الصهيونية العالمية الممثلة في الكيان الإسرائيلي الذي يحتل أرض فلسطين ظُلماً وعدوانا منذ ما يزيد على 60 عاماً. ونحن نعلم أن دول الاتحاد الأوروبي لم يتغلغل التأثير الصهيوني داخل مؤسساتها كما هي الحال في الولايات المتحدة، ولكنها تميل إلى التبعية التي يتميز بها بعض زعماء الدول الأوروبية، مع أنهم ليسوا في حاجة في بلادهم إلى نفوذ أو مُساعدة أمريكية.
وقد ترتب على التحيز الواضح من قِبل بعض الأنظمة الأوروبية إلى جانب إسرائيل ضد حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، مُسايرة للخط الأمريكي الظالم، استعداء الشعوب العربية التي لا ترى مُبرراً لانحياز السياسات الأوروبية إلى جانب حكومة يهودية عنصرية لا تتقيد بقوانين وشرعية دولية ولا بأخلاق إنسانية، مع أن بلدانهم كانت منبع الديمقراطية والحريات الشخصية وفلسفة تقرير المصير التي هي حق ثابت من حقوق الشعوب المُحتلة والمضطهدة.
ومن الهفوات الشنيعة التي تُحسبُ على دول الاتحاد الأوروبي، مُجتمعة أو مُنفردة، تأييدهم اللا معقول والمطلق للسياسات العدوانية الأمريكية التي لا تفتأ تنتقل من مكان إلى آخر ومن تدمير كامل لحياة أمة مُسالمة. فأقل ما يُقال عن الدول الأوروبية إنها إمَّعة تلهث وراء الولايات المتحدة أينما حلت. وفي كثير من الأحيان تسمح لنفسها بمشاركة الأمريكان عسكرياًّ، حتى ولو كان ذلك يُخالف مبادئ الديمقراطية التي طالما تغنت بها. فبريطانيا انزلقت وراء أمريكا لحظة هجومها على العراق الذي كان أساساً مبنياًّ على الكذب والخداع وخدمة الصهيونية العالمية التي كان ولا يزال هدفها إضعاف وشل القدرات العربية. وحصل ما حصل من الدمار بحق شعب كان يُعاني قبل ذلك من حكم صارم. فقُتل وجُِرح وتشرَّد الملايين من أبناء الشعب العراقي على أيدي تلك الوحوش الأمريكية والأوروبية. ومن أجل أن تُضيف الولايات المتحدة شرعية مُقنَّعة على عملياتها التخريبية دعت عدة دول أخرى من ذوي المصالح الخاصة لمشاركة رمزية معها في العراق حتى تتمكن من تغطية العيون، وإطلاق اسم قوى التحالف بدلاً من القوات الأمريكية والإنجليزية المحتلة. وبعد نجاحها في تدمير ما تحت البنية التحتية في العراق ولخبطة الحسابات بين الفرق العراقية المختلفة، اتجهت إلى أفغانستان لتعيث فساداً هناك بمباركة ومساعدة مباشرة من أحفاد المستعمرين الأوروبيين، ممثلة في جيوش حلف الأطلسي، وذلك من أجل شن حرب إبادة ضحاياها شعب فقير أعزل. وتأخذهم العزة بالإثم فيتباهون عند ما يسقط من فعل صواريخهم عشرات القتلى من النساء والأطفال وهم يدَّعون أنهم يُحاربون الإرهاب، بينما أفعالهم كلها إرهاب. وما ذا يا ترى هم كاسبون، لا نفط ولا ذهب ولا يحزنون! بل الكاسب الوحيد هم صُناع السلاح وتجار المُخدرات ومنْ يقف من ورائهم.
والدول الأوروبية لا يخفى عليها أن المُغامرات العدوانية الأمريكية ستجلب لهم، على وجه الخصوص، وللشعوب المسالمة عامة كثيراً من الأزمات الاقتصادية مثل غلاء المعيشة وزيادة استهلاك الطاقة، إلى جانب تأزم العلاقات الدولية، مما سيعود عليهم وعلى أجيالهم بعدم الاستقرار، ناهيك عن الكره الشديد الذي ستكنه لهم الشعوب المُبتلاة بعدوانهم. ولنأخذ مثلاً أكثر خطورة على المجتمع الدولي لو لا قدر الله قُدّرِ له أن يحدث. فلو قررت الولايات المتحدة تحت الضغوط الصهيونية مهاجمة المفاعلات الذرية الإيرانية وهو أمر وارد، ولم تعترض عليها الدول الكُبرى وفي مُقدمتها الدول الأوروبية وتوُقفها عند حدها، فإن ذلك سيجلب للجميع كوارث اقتصادية شنيعة وربما أيضا بيئية خطيرة دون ذنب اقترفوه، ولكن الأوروبيين يتحملون تبعاته نظير سكوتهم وربما تأييدهم على حماقة المُتسببين في وقوعه.
ونحن لا نشك في أن المجموعة الأوروبية لو أرادت لكان لها دور كبير في الحفاظ على الأمن الدولي وردع القوى التي تميل إلى العدوانية مهما كان شكلها وموقعها من الساحة الدولية. فالأوروبيون، على الرغم من تاريخهم الاستعماري البغيض وخوضهم فيما بينهم حربين عالميتين مُدمرتين خلال العقود القليلة الماضية، إلا أنهم اليوم يتمتعون بمستوى رفيع من المعيشة والمدنية والحضارة والتعليم والحريات الشخصية والحكم الديمقراطي الفريد. وكان حريا بها أن تُحافظ على هذه المكتسبات القيِّمة ولا تسمح لكائن منْ كان أن يُعكر صفو الحياة البشرية عامة دون مُبررات قانونية وإنما استجابة لنزوات شخصية أو كيدية تؤدِّي إلى إحداث ظلم فاحش بحق شعب بعينه أو مجموعة من الشعوب التي ليس لديها القدرة على الدفاع عن نفسها.