رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ألمانيا واليونان .. من الضحية ومن الجلاد؟

سبق أن أشرت في مقالات سابقة إلى أن الأزمة المالية, وإن عبرت أسوأ مراحلها في القطاع المالي, إلا أن هناك كثيرا مما ينتظر إصلاحه في قطاع المالية العامة. المالية العامة خلال السنوات الأخيرة شهدت كثيرا من التدهور, خصوصاً في أوروبا, وليست الولايات المتحدة واليابان منها ببعيد، لكن ما يجعل الوضع في أوروبا أسوأ هو أن هناك منطقة عملة واحدة بين 16 دولة من دول الاتحاد الأوروبي. هذا يعني أن هذه الدول سلمت سياستها النقدية للسلطة النقدية العليا في الاتحاد، لكنها في الوقت نفسه احتفظت بالسلطة على المالية العامة لها مع الالتزام بمعايير لهذه السلطة مثل نسبة الدين العامة وعجز الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
الأمر لم يكن كما هو متوقع، فالتعجل الذي كان يدفع به الساسة لتأسيس عملة موحدة لأوروبا جعل من السهل على عدد من الدول التي لم تكن فعلياً مؤهلة لدخول الاتحاد النقدي ومنها اليونان, فاليونان لم تكن فعلياً جاهزة لدخول الاتحاد الأوروبي لكنها سهلت طريق الدخول بتقديم بيانات لا تعكس الواقع الحقيقي للمالية العامة لديها. وما غاب عن اليونانيين في حينه أن ذلك ربما يكون كحفر قبورهم بأنفسهم، فالعاقبة لم تكن ولن تكون بسيطة، وستترك آثارا في المستقبل الاقتصادي لليونان ستستمر فترة طويلة.
هذا الأمر أظهر حقيقة مهمة لم يكن الاقتصاديون يلقون لها بالا عند الحديث عن التكامل الاقتصادي بين الدول الذي راجت سوقه في نهاية القرن الماضي, حيث إن الحديث عن قضية الخطر الأخلاقي Moral Hazard كان مقتصراً على المنشآت الخاصة، ولم يكن هناك نقاش فعلي لإمكانية حدوث ذلك بالنسبة للحكومات والدول. وهذا لا يعني أن ذلك كان غائباً عن الاقتصاديين، لكنه كان مستبعداً لدرجة كبيرة. المشكلة الآن أصبحت واقعاً سينعكس على مستقبل العلاقات الاقتصادية الدولية لضمان عدم تكرار ما حدث في الاتحاد الأوروبي.
فما حدث يؤكد أن دخول الاتحاد النقدي لا يتطلب سياسة نقدية واحدة فقط، لكن يتطلب أيضاً سياسة مالية عامة منسقة ومضبوطة بمعايير فنية دقيقة وتحت إشراف مباشر من سلطة الاتحاد النقدي. اليونان كانت درسا صعبا للغاية حيث كانت مرآة لـ ''ليمان براذرز'', البنك الاستثماري الأمريكي الذي أدى انهياره, الذي سمح به ''الاحتياطي الفيدرالي'' الأمريكي, إلى اشتعال جذوة الأزمة المالية العالمية. لذلك، كان من باب أولى أن يكون انهيار اليونان مقدمة لأزمة اقتصادية عالمية لا يعرف مداها، وكان الخيار الذي اتخذه قادة الاتحاد الأوروبي مهماً لإعادة الاستقرار للاقتصاد العالمي.
الخلاف كان صعباً، فمن ناحية كانت هناك معارضة كبيرة من ألمانيا على عملية انتشال Bail Out اليونان من أزمتها الحالية بالنظر إلى أن ألمانيا ستتحمل العبء الأكبر في ذلك من بين دول الاتحاد النقدي. هذه المعارضة لم تأت من فراغ لكنها بناء على حسبة منطقية فكر فيها كل ألماني، فكيف يمكن للألمان الذين يبلغ سن التقاعد عندهم 67 عاماً انتشال اليونان الذين يبلغ سن التقاعد 61 عاماً؟ وكيف يمكن أيضاً انتشال اليونان التي تلاعبت في أرقام ماليتها العامة لدى دخولها للاتحاد النقدي؟ وكيف يمكن انتشالها وهي التي حملت ماليتها العامة أكثر مما تحتمل واستجابت للاتحادات العمالية التي طالبت بزيادة الأجور والمنافع التقاعدية وغيرها؟
أخيرا وافقت ألمانيا, لكن في وقت متأخر وبعد تفاقم فاتورة انتشال اليونان، وهذا سيكلف المستشارة الألمانية الكثير في الانتخابات القادمة، حيث تمت الموافقة على خطة دعم لليونان مدتها ثلاث سنوات ستكلف قرابة 120 مليار يورو, لكنها تتضمن أيضاً شروطاً قاسية على اليونان التي يجب أن تقلص عجز الميزانية من 13.6 في المائة إلى 2.7 في المائة خلال ثلاث سنوات، مع نظام تقاعد جديد سيرفع السن التقاعدية لكل من الرجل والمرأة لتقليص الالتزامات التقاعدية، وتخفيض الأجور والعاملين في القطاع العام. النتيجة، إضرابات واحتجاجات أشعلتها الاتحادات العمالية وأدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص.
الأمر لا يقتصر على اليونان, لكن هناك كل من البرتغال وإسبانيا وإيرلندا, التي أيضاً ستعمل على تحسين أوضاع المالية العامة لديها. الفاتورة كبيرة لكن ليس هناك بد من مشاركة الجميع في تحمل تكلفتها لأنهم اتخذوا قراراً بالاتحاد النقدي وعليهم أن يكونوا في خط الدفاع جميعاً عن كل ما يهدد هذه العملة. هذا الأمر يؤكد أن المالية العامة هي الخطر الأكبر الذي يهدد التعافي الاقتصادي العالمي، ما يتطلب جهوداً كبيرة لمعالجة أوضاعها المتفاقمة في كثير من الدول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي