رياح السبعينيات

رياح السبعينيات

<a href="[email protected]">[email protected]</a>

من بوليفيا البعيدة بدأت تهب على الساحة النفطية رياح السبعينيات مجددا. الرئيس البوليفي أيفو موراليس انتهز مناسبة عيد العمال ليعلن في الأول من هذا الشهر تأميم صناعة الغاز في بلاده. وكلمة التأميم تكاد تكون قد قبرت من القاموس السياسي. ومع أن بوليفيا لا تشكل ثقلا يعتد به في الصناعة النفطية، إلا أنها من ناحية تمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز في أمريكا اللاتينية بعد فنزويلا، ثم أنها تتجه إلى تشكيل حلف مع فنزويلا وكوبا، وربما بيرو والإكوادور في تبني خط يساري يكون مناهضا للسياسات الأمريكية بصورة عامة.
ولدول أمريكا اللاتينية ظروفها الخاصة التي تدفعها إلى تبني مواقف سياسية مناوئة لواشنطن، ولكن ما يهم هنا انعكاسات خطوات مثل هذه على مجمل الصناعة النفطية. ورغم بعد دول أمريكا اللاتينية الجغرافي، إلا أن بصماتها في تاريخ الصناعة النفطية ظل واضحا على الدوام. فالدعوة إلى تأميم هذه الصناعة تعود جذورها إلى المكسيك، كما أن فنزويلا لعبت دورا محوريا في تأسيس منظمة الاقطار المصدرة للنفط (أوبك) قبل أكثر من أربعة عقود من الزمان وظلت لاعبا رئيسيا في تسيير دفة الأمور داخل المنظمة بسبب ثقلها التاريخي والإنتاجي. وحتى الإكوادور الصغيرة سجلت سابقة الأنسحاب من عضوية أوبك عندما شعرت بعبء تلك العضوية على مواردها المحدودة.
سياسة التأميم التي أطلقها موراليس تجد لها ملامح في قيام فنزويلا بالطلب إلى الشركات الأجنبية العاملة فيها في ميدان العمليات الأمامية إعادة التفاوض على العقودات بما يضمن غلبة الأسهم لشركة النفط الوطنية. ووصل الأمر إلى تهديد شركات عملاقة مثل توتال الفرنسية، التي شهدت إغلاق مكتبها لبعض الوقت كي تفهم الرسالة وريبسول الإسبانية وحتى عملاق الصناعة النفطية إكسون موبيل التي لها تاريخ طويل من العمل في فنزويلا.
ومع أن للمناخ السياسي دوره في هذا الاتجاه، إلا أن الذي جعل مثل هذا التوجه ممكنا الظروف التي تمر بها السوق النفطية، وهو ما يعيد إلى الأذهان تجربة السبعينيات. فالدول النفطية ظلت وبدرجات متفاوتة تشعر بغبن كونها لا تحصل على نصيبها العادل من نفطها الذي يستخرج من أراضيها، لهذا راجت أفكار السيطرة على الصناعة النفطية بمختلف السبل من التأميم إلى المشاركة، لكن كان يقعد بها تجربة إيران عندما فشلت تجربة محمد مصدق لتأميم صناعة النفط في بلاده وذلك بسبب الهيمنة التي كانت تفرضها الشركات الأجنبية على مختلف مراحل العمل من استكشاف إنتاج، تطوير، نقل، تكرير، وتوزيع.
عقد السبعينيات جاء بما عرف بتحول السوق لصالح البائعين، حيث تزامن ارتفاع الطلب مع عوامل سياسية مثل اشتعال حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل وما صحبه من حظر نفطي أسهم في أحدث شح في الإمدادات لسوق تعاني أصلا من ارتفاع في الطلب، الأمر الذي قوي من موقف الدول المنتجة وجعلها تفرض شروطها لأول مرة، وهو ما برز من خلال قيام الدول المنتجة بتحديد سعر برميل النفط من قبلها دون مشاورة الشركات وذلك في سابقة تاريخية.
تلك الفترة شهدت إكمال سيطرة الدول المنتجة على مرافق صناعتها النفطية وبروز الشركات الوطنية التي بدأ بعضها يتباهى بأنه الشقيقة الثامنة وذلك في إشارة إلى تعبير الشقيقات السبع السائد حول كبريات الشركات النفطية العالمية.
لكن مياها كثيرة جرت تحت الجسور خلال العقود الثلاثة الماضية، فالسوق تحولت في الجزء الأكبر من تلك الفترة إلى سوق مشترين يفرضون شروطهم على البائعين في شكل حسومات وأفضليات للدفع، واتضح من التجربة العملية أن للسوق أوقات صعود وأخرى للهبوط تعني للمنتجين عجوزات في الموازنات وقلة تحكم في السوق ومؤشرها الأساسي سعر البرميل. وأهم من هذا كله أن الصناعة كي تبقى منافسة فعليها الاستمرار في الإغداق على شركاتها الوطنية في شكل استثمارات وتوفير للتقنية التي تحتاج إليها لزيادة الاحتياطيات أو خفض التكلفة إلى جانب ترابط الصناعة وتكاملها من فوهة البئر إلى المستهلك.
وهذا ما فتح الباب لعودة الشركات الأجنبية على استحياء إلى العمل في الدول المنتجة التي طردتها قبل أكثر من ربع قرن من الزمان وتحت مختلف الصيغ.
وبما أن الواقع يظل أخضر باستمرار، فإنه ليس من حسن السياسة التمسك بثوابت مثل السيطرة الوطنية على مقاليد الصناعة النفطية، إذا لم تستطع تلك السيطرة إدارة تلك الصناعة بمهنية وحرفية عالية تعطي في النهاية ثمارها في شكل عائد لأهل البلاد وإسهام في توفير الإمدادات المطلوبة للاقتصاد العالمي، فتجارب التأميم في العديد من البلدان المنتجة حولت الكثير من المرافق النفطية إلى خرابات قادرة فقط على العمل بالحد الأدنى.
تحول السوق إلى صالح المنتجين مرة أخرى تطور إيجابي لكنه لا يحتاج إلى إفساده بارتكاب الأخطاء السابقة نفسها، وإنما الاستفادة من دروس الماضي الثرية والإبقاء على صناعة نفطية وطنية حية قادرة على التطور الذاتي والأداء الذي يلبي المطالب المحلية والدولية.

الأكثر قراءة