اللامركزية وكفاءة تخصيص الموارد
يبحث الاقتصاديون دائماً عن الكفاءة في استخدام الموارد بما يعظم العوائد الاقتصادية منها. ولتحقيق ذلك، يحاولون الإجابة عن تساؤلات متعددة تتعلق بما هي السلع التي يجب أن تقدمها الحكومة؟ وأي مستوى من الحكومة (مركزية أو محلية) التي يجب أن تتولى مسؤوليات تحديد هذه الاحتياجات؟ ومن سيتولى تحمل عبء هذه الاحتياجات، تتحملها الحكومة بشكل كامل أو بشكل جزئي؟ الإجابة عن هذه التساؤلات مهمة جداً لتحديد الاحتياجات الحقيقية للأفراد التي تزيد من كفاءة استغلال الموارد المتاحة. فالإنفاق الحكومي أو (السلعة العامة)، يجب أن يكون انعكاساً لرغبات الأفراد وحاجاتهم الفعلية لتحقيق كفاءة الاستغلال، لأن الموارد في النهاية محدودة وبالتالي يجب توزيعها بشكل أمثل.
على سبيل المثال إذا واجهت الحكومة خياري بناء مدرسة أو حديقة عامة فتجب الإجابة عن التساؤلات الثلاثة الأولى: ما السلعة التي ستقدمها الحكومة: المدرسة أم الحديقة العامة؟ وأي مستوى من الحكومة سيقدم كلتا السلعتين؟ ومن سيتحمل العبء في تكلفة تأمين هاتين السلعتين؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات يجب النظر أولاً إلى ما يحتاج إليه الناس فعليا وما يعظم منفعتهم والبدء بتحقيقه أولاً. هذا يتطلب أن تكون هناك وسيلة (إعلامية) توضح رغبات الأفراد لصانع القرار وبالتالي تسهم في زيادة كفاءة تخصيص الموارد الحكومية. من هذه الوسائل التي تحقق هذه الكفاءة إعطاء الناس حق الاختيار من خلال أخذ رغباتهم المتعلقة بكل سلعة عامة وفي كل مدينة أو حي في الحسبان. ثم التفكير في أي مستوى من الحكومة (المركزية أو المحلية) التي ستتحمل مسؤولية تحديد الاختيار.
فقد يكون تحديد الاحتياج بالنسبة للمدرسة على مستوى مركزي أفضل بينما يتم تحديد الاحتياج إلى الحديقة العامة على مستوى محلي. وأخيراً من سيتحمل أعباء هذه التكاليف، ففي حالة المدرسة قد يكون من المناسب أن تتحملها الدولة أو الحكومة المركزية لأنها الأقدر على تحديد الاحتياجات والحد الأدنى من المعايير المطلوبة في التعليم، بينما قد يكون من المناسب أن يتحمل الأفراد في كل مدينة أو قرية جزءا من تكلفة إنشاء الحديقة العامة لكي تعكس فعلياً حاجاتهم الحقيقية ولكيلا تكون تبذيراً شكلياً كما يحدث في بعض القرى التي تكثر فيها المزارع والمتنزهات الطبيعية.
على الجانب الأكاديمي يعد شارلز تيبو أحد أول من نظر إلى هذا الأمر من خلال نظرية التصويت بالقدم التي قدمت كتفسير لكفاءة اللامركزية في إدارة الموارد العامة ولقيت رواجاً في الأوساط الأكاديمية لمتانة الأساس النظري والعملي الذي تقوم عليه. ففي افتراض وجود عدد كبير من القرى والمدن والهجر، وبالنظر إلى وجود خيارات متعددة من السلع العامة والخاصة، ووجود حرية كاملة للأفراد للانتقال من مكان إلى آخر، فإنه من الكفاءة بمكان أن تحدد الحاجة لهذه السلع وتكلفتها لا مركزياً. ونتيجة لذلك، فإنه سيكون هناك توزيع أمثل للأفراد بين هذه المدن والقرى يعكس بشكل واضح الحاجة الفعلية في كل مدينة أو قرية للسلع أو الخدمات العامة المقدمة فيها. وعملية الانتقال هذه يشبهها تيبو بعملية التصويت بالقدم، ففي حالة ارتفاع تكلفة الخدمات العامة أو عدم تناسب هذه الخدمات مع رغبة أحد الأفراد في مدينة (أ) فإنه سينتقل إلى المدينة(ب) التي تعكس بشكل أفضل رغبته واستعداده لتحمل جزء من تكلفة هذه الخدمات.
بالطبع النظرية تضع قيدا على مسألة عدم توافر الوظائف في القرية أو المدينة المراد الانتقال إليها، لكن ذلك لا يؤثر في بناء النظرية لأن الفكرة هي تحديد الخيار الأمثل لتحديد الاحتياجات من السلع العامة فهل يكون محلياً أو يكون مركزياً. هناك أيضاً قيود على النظرية يشرحها تيبو فيما بعد تتمثل في أنه قد يكون من المناسب تدخل الدولة مركزياً لتأمين خدمات رئيسة كالصحة والتعليم في مناطق قد تكون رغبة الأفراد بالمقارنة مع تكلفة هذه الخدمات معدومة فيها، مما سيكون له آثار اجتماعية كبيرة. وهنا يجب أن تتدخل الدولة لتأمين هذه الخدمات حتى لو كانت رغبة الأفراد لا تعكسها. بمعنى آخر، يجب أن يكون هناك حد أدنى من السلع العامة الرئيسة التي تقدمها الدولة في كل منطقة ومدينة لضمان دور رئيس للدولة في تقديمها.
وأخيراً هناك ارتباط واضح بين تقدم الدول وبين مستوى اللامركزية في عملية تخصيص الموارد فيها بين الاحتياجات المختلفة وبين المناطق المختلفة. فالدول المتقدمة تجد لديها مستوى متقدما من اللامركزية، حيث يكون للأفراد حرية أكبر في اختيار ما يريدون من السلع والخدمات. كما أن هناك ارتباطا طرديا واضحا بين مستوى التقدم السياسي في الدول وبين فاعلية نظام المالية العامة اللامركزي لأن هذا التقدم السياسي يوفر الغطاء الرقابي اللازم لتحقيق أهداف المالية العامة التي من أهمها تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع. نتمنى أن يكون للدورة المقبلة من المجالس البلدية دور أكبر لتعكس بشكل أفضل رغبات الأفراد وحاجاتهم ولتحقق المشاركة من الجميع في بناء الوطن.
بقي أن أشير إلى الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي عودنا دائماً على مبادرات متميزة, أخذ أيضاً مبادرة متقدمة ومتميزة في هذا المجال، حيث دعم تأسيس مركز الإدارة المحلية في جامعة الأمير سلطان بن عبد العزيز, الذي أجزم أنه سيكون له دور كبير في تأسيس فكر لا مركزي وأكثر كفاءة في الإدارة الحكومية.