تخطي أسعار النفط 70 دولارا للبرميل يعيد ظاهرة البترودولار
بدأت الأصوات ترتفع محذرة من تأثير تصاعد أسعار النفط. وفي الوقت الذي قامت فيه منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) بخفض توقعاتها في الطلب على النفط لهذا العام في تقريرها الأخير لهذا الشهر مقارنة بتقريرها للشهر الماضي، فإن المكتب القومي للإحصائيات الصيني أوضح أن الأسعار العالية سيكون لها تأثيرها في الاقتصادين العالمي والصيني تحديدا، مع توقعه أن تستمر معدلات الأسعار مرتفعة ولو أنها لن تزيد على المعدل السائد كثيرا، كما أن تأثيرها السلبي في الاقتصاد الصيني سيكون محدودا بسبب الاتجاه إلى مصادر طاقة أخرى مثل الفحم والغاز الطبيعي.
من جانبه، فإن صندوق النقد الدولي أصدر دراسة في منتصف هذا الشهر أشار فيها إلى أن الزيادة في سعر برميل النفط، التي بلغت نحو 30 دولارا في خلال عامين حتى نهاية العام الماضي، أدت إلى بروز ظاهرة البترودولار مرة أخرى، وهي الظاهرة التي عرفها عقد السبعينيات عند الصدمة النفطية الأولى. ففي تلك الفترة تمت مواجهة ظاهرة البترودولار عبر النظام المصرفي الغربي الذي قام بتدوير تلك العائدات الدولارية، لكن الوضع يبدو مختلفا هذه المرة خاصة بعد التعقيدات التي شابت النظم المصرفية نتيجة أحداث وانعكاسات أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
وتقدر الدراسة أن حجم عائدات البترودولارات هذه في حدود 800 مليار دولار، وأنه مع أخذ عنصر التضخم في الحسبان، فإن العائدات تزيد على ما تحقق في الطفرة السابقة التي بلغت قمتها عام 1980، وأن هذا الدخل الإضافي بالنسبة إلى الدول المنتجة يعني من الناحية الأخرى زيادة في الأعباء أو العجز بالنسبة إلى المستوردين. وفي تقدير للدراسة فإن فاتورة الوارد من النفط ومشتقاته تمثل بالنسبة إلى دولة مثل الصين ما نسبته 4 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي لديها، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة تبلغ النسبة 1 في المائة.
وتضيف الدراسة أنه من ناحية أخرى فإن تأثير الصدمة الحالية يقل عن ذلك الذي أحدثته الصدمة الأولى في السبعينيات بسبب اتساع الأسواق المالية العالمية وكبر حجمها وتقلص الحواجز التجارية بين الدول، إلى جانب تبني الدول المنتجة خاصة الخليجية لسياسة حذرة في الإنفاق مقارنة بالمرة السابقة، وذلك من باب الدروس التي مرت بها من قبل وشهدت الأسعار تراجعا إلى مستويات قياسية وموازناتها تعاني عجوزات مزمنة، ولهذا لا يزال مصدرو النفط يحتفظون بجزء كبير من عائداتهم، رغم أنه كان متوقعا الانطلاق في الإنفاق للتعويض عن سنوات الأسعار المتدنية، لكن التقرير يشير إلى أنه متى تم البدء في الإنفاق العالي، فإن تلك الظاهرة تنطلق دون قيود.
وبصورة عامة تشير الدراسة إلى أنه ووفقا للأرقام المتاحة فإن الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) تصرف نحو 24 في المائة من دخلها الإضافي على الواردات والنسبة تصل إلى 31 في المائة بالنسبة إلى المنتجين من خارج "أوبك" و15 في المائة للمنتجين الخليجيين، الذين تتجه ممارساتهم الإنفاقية إلى أعلى.
وتقول الدراسة إن الدول الأعضاء في منظمة أوبك حصلت العام الماضي على عائدات بلغت 500 مليار دولار، وهو ما يعادل ضعفي ما كان عليه الوضع عام 2003، لكن أقل من ناحية نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إذ بلغت النسبة 1.1 في المائة مقابل 2 في المائة في طفرة عقد السبعينيات.
ورغم ذلك يرى الصندوق أن الاقتصاد العالمي مرشح ليعيش عامين آخرين من النمو المتواصل رغم أسعار النفط العالية، وهو يتوقع أن يبلغ النمو 4.8 في المائة هذا العام و4.7 في المائة العام المقبل، وذلك مقابل 5.3 في المائة عام 2004 و4.8 في المائة العام الماضي. نسب النمو الجديدة تزيد 0.6 في المائة عما كان يتوقعه الصندوق لمعدل النمو لهذا العام و0.3 في المائة للتوقعات السابقة بخصوص العام المقبل التي نشرت في أيلول (سبتمبر) الماضي، ويعود ذلك بصورة رئيسية للأداء القوي للاقتصادين الصيني والهندي إلى جانب استمرار الدور القيادي للاقتصاد الأمريكي ولعبه دور القاطرة لبقية الاقتصادات الغربية والآسيوية. ويتوقع التقرير أن تكون أسعار النفط في حدود 61.25 دولار للبرميل لهذا العام و63 دولارا للعام المقبل.
والتخوف من تأثير أسعار النفط المرتفعة على الوضع الاقتصادي يعود إلى أنها تساعد على انبعاث خطر التضخم ودفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى حدوث خفض في النمو الاقتصادي. وإذا كان الارتفاع حادا أو استمر فترة طويلة فإنه ينتج عنه حدوث كساد، كما حدث بالنسبة إلى الارتفاع الحاد في أسعار النفط إبان الصدمة النفطية الأولى في 1973/1974 التي استمرت بصورة ما حتى عام 1980 عندما بلغت أسعار النفط ذروتها، وأدت فترة السنوات السبع من الأسعار العالية إلى حدوث الكساد وتصاعد وتيرة التضخم وارتفاع معدلات الفائدة.
وتشير دراسات تاريخية إلى أن حدوث قفزة في الأسعار سبق تسعا من كل عشر فترات كساد شهدتها الولايات المتحدة، ولو أن أرتفاع أسعار النفط لم يعقبه ارتفاع في أربع مرات في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. ويمكن القول إن الارتفاع الحالي في أسعار النفط لن يؤدي تلقائيا إلى حدوث كساد، لكنه يثير تساؤلات عن مدى استمرارية الانتعاش الاقتصادي الحالي. وكمثال على التأثير فإن سوق الشاحنات الأمريكية التي تعتبر من الشرايين الرئيسية في قطاع النقل استهلكت 34.6 مليار جالون من الديزل و15.2 مليار جالون من البنزين عام 2003، وفق الرابطة الأمريكية للشاحنات، ومع أن الأرقام الخاصة بالعامين التاليين لم تكتمل، إلا أن تقديرات الرابطة تشير إلى أن فاتورة استهلاك الوقود كلفت قطاع الشاحنات هذا 85 مليار دولار العام الماضي و62.6 مليار في العام الأسبق، الأمر الذي يشكل زيادة كبيرة عن مبلغ 52.2 مليار تم إنفاقها في 2003.
من جانبها، قالت منظمة "أوبك" في تقريرها الشهري الأخير، إن أسعار النفط بلغت حدا من الارتفاع يخشى معه أن تبدأ في التأثير على الطلب. وقلصت المنظمة تقديراتها على الطلب إلى 1.43 مليون برميل يوميا من 1.46 مليون في تقريرها السابق. وأضافت أنه مع اكتمال الأرقام الخاصة بالأداء للعام الماضي يبدو أن الطلب على الخام بلغ 83.1 مليون برميل يوميا بزيادة 1.2 مليون، ويتوقع له هذا العام أن ينمو بنحو 1.43 مليون أو 1.7 في المائة إلى 84.5 مليون برميل يوميا.
ويلفت التقرير النظر إلى تفاوت في الأرقام الخاصة بالصين، حيث حقق الطلب نموا كبيرا بلغ 20 في المائة في كانون الثاني (يناير) الماضي، ليهبط بصورة درامية إلى معدل نمو في 3 في المائة فقط في الشهرالتالي.
على أن العامل الأكثر إثارة للقلق يتعلق بوضع سوق المنتجات المكررة التي تتعرض إلى ضغوط بسبب قلة المخزون من ناحية وحدوث الكثير من عمليات الصيانة خلال فترة الشهرين المقبلين، وهو ما سيجعل المصافي الأمريكية تعمل بنحو 84.9 في المائة من طاقتها والأوروبية 83.2 في المائة، وهو ما يسهم في الضغط على أسعار المنتجات المكررة وتجعلها تقطر سعر الخام وراءها.
وفيما يتعلق بالإمدادات من خارج المنظمة، فإن المنتجين الذين قدموا العام الماضي 50.1 مليون برميل، بزيادة 200 ألف برميل يوميا عما قدموه عام 2004، فإنهم يأملون تحقيق نمو في إمداداتهم يرفعها إلى 51.5 مليون هذا العام.