أي جيل من الهيئات الشرعية نُريد؟
في أحد المؤتمرات الأخيرة لصناعة المال الإسلامي في المنطقة ثارت حفيظة أحد المتحدثين وهو من الأعضاء الحديثين على الهيئات الشرعية بأن أسمع كلاما مستفزا ومقصودا لأعضاء مخضرمين في الهيئات الشرعية، وكأن المشهد يوحي بأن الفترة المقبلة لن تحمل هدوءا وتسليما من الفئة الحديثة على ساحة الهيئات الشرعية، بل ستحمل في بعض الحالات صراعا للأجيال من نوع مختلف، إذ إنه بالرغم من تجاوز التأدب الذي اعتدنا عليه في حضرة العلماء كالشيخ عبد الستار أبو غدة والشيخ القرة داغي، إلا أن الجلسة ترسل إشارات إلى ضرورة ضبط أخلاقيات العمل في الهيئات الشرعية، وضرورة أن يتبنى علماء الشريعة المخضرمون في الهيئات الشرعية برنامجا يمحون فيه الصورة المسيطرة على المجالس الشرعية ويملكون ردودا مقنعة على تمركزهم في عدد كبير من المجالس الشرعية في الوقت ذاته.
إن التلمذة ليست واضحة في مجالس الهيئات الشرعية لصناعة المال الإسلامي، التي من الممكن تصنيفها إلى مدرسة الخليج العربي ومدرسة شرق آسيا، وقد تظهر مدارس جديدة في العالم، إلا أننا نحتاج إلى أن يهتم علماء الشريعة بإبراز جيل جديد من العلماء، ولا نقصد تأهيل مقلدين يتبعونهم بحرفية، وإنما تأهيل جيل من العلماء يتبنى النهج الاستدلالي ممن تتلمذ على أيديهم ليستطيع الحكم من بعد تأمل في المسألة المالية المعاصرة، وبذلك تمتلك صناعة المال الإسلامي ثروة فقهية حية ومعاصرة.
لم يكن الإمام أبو حنيفة بعاجز عن نفي اجتهادات تلميذيه الإمامين أبو يوسف ومحمد، ولكن فهمه العميق لضرورة احترام الاجتهاد وأنه من نهج العلماء، أدى إلى رحابة في الحجج والاستدلال في الفقه الحنفي.
ولكن السؤال الذي يبقى عالقا: كيف يمكن أن تتبنى صناعة المال الإسلامي دعم هذا التوجه في حال كان لنا رؤية استشرافية تعكس رؤية الجيل القديم وتطلعات الجيل الجديد.
إن محدودية عدد علماء الشريعة تعكس تحديا مقبلا للصناعة المالية الإسلامية، إن لم يكن هذا التحدي قد بدأ فعلا، وكي نتجاوز هذه السلبية ونتعاطى مع الواقع، وضح الدكتور عبد الباري مشعل في عرض لأفكاره خلال المؤتمر المذكور، الحاجة إلى إلغاء الهيئات الشرعية المرتبطة بالمؤسسة والاكتفاء بهيئة شرعية عن طريق التعاقد مع جهة خارجية من الممكن لها أن تقدم هذه الخدمة، ولكن تبقى المشكلة قائمة في رأيي ولكن بصورة أخرى، وهي أن الاكتفاء بمصدر خارجي لتقديم خدمة الاستشارات الشرعية كما هو الطرح المذكور سيولد في المدى القريب نوعا من الفوضى.
إن مثل هذه الجهة الخارجية لم يتم الترتيب لها بما يتناسب ومسؤوليات الهيئات الشرعية على مستوى هيئة شرعية مركزية - على سبيل المثال - إذ ما زلنا مترددين في أغلبية البلدان الإسلامية باعتماد مثل هذه الهيئة، وبالتالي فإن الهيئة الشرعية الخارجية تحتاج إلى تنظيم تام منعا لدخول الفتاوى في مفهوم التجارة البحت، وأن السيطرة على الأمر من ناحية الضبط والرقابة والترجيح سيبقى عالقا وسنترك المكان كما لو كنا نعلن أن السوق لديها حصانة وقابلية لتصحيح أي اختلافات شرعية بنفسها، وهذا، واقعي بالتأكيد، غير مقبول.
إن المعايير الشرعية التي صدرت عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ومقرها البحرين، لا تملك سلطة الإلزام للبت في أي مخاطر قد تنتج عن اختلافات شرعية في المؤسسات المالية الإسلامية أو النوافذ الإسلامية، وفي حال دخول هذه المؤسسات الخارجية لتقديم خدمة دقيقة على مستوى الفتاوى الشرعية - وهي في اعتقادي قادمة - نحتاج إلى عملية تنظيم متكاملة وكذلك لهيئة تحكيم، ويفضل تسميتها بهيئة ترجيحية على مستوى الدولة للحفاظ على هيبة العمل المالي الإسلامي ومصداقيته من أي اهتزازات قادمة في الجهة الرقابية التي تميزه عن العمل المصرفي التقليدي.
إن ما رأيناه وسمعناه في مؤتمرات متعددة تحمل همّ التوجهات المالية الإسلامية والصناعة ككل، يحمل إرهاصات لعديد من الاحتياجات في هذه المؤسسات، وللتأسيس لرؤية مستقبلية تحتاج هذه الصناعة لأن يجتمع أرباب القرار من أجل تشكيل خطة شاملة (Master Plan) من أجل الدخول للمرحلة الجديدة ــ على الأقل ــ ونحن نملك مفاتيح النجاح المنظورة أو على الأقل أسلوب استغلال الفرص والتحديات المقبلة.
الجيل القادم من علماء الهيئات الشرعية يتطلب عكس صورة نقية مخلصة عن الاجتهاد في الإسلام وعن هيبة الفتاوى وعن هيبة الحضور لعلمائنا الأجلاء، ولا أعني بذلك طريقة اللباس أو طول اللحية بل أعني الانتباه بشدة لما تغذت به العقول القادمة، وحبذا لو كانت مسألة التلمذة على يد هذا العالم أو ذاك حاضرة لدى علمائنا بالأسلوب الذي ذكرناه آنفا وبدون تجميد للآراء الشرعية، وبفتح الباب الرحب للاختلاف ومن ثم الترجيح بالاستناد إلى قوة الدليل لنصل إلى احترام الجمهور، وقبل كل ذلك الإخلاص في العمل والارتكاز إلى القواعد الأخلاقية في الإسلام.
بيد أن حساسية موضوع الهيئات الشرعية وهيبة علمائنا الأجلاء يتطلبان منهم رفع مستوى المناقشة مع العامة، واعتماد قوة الدليل حيثما تطلب الأمر، إذ إن المرحلة المقبلة ــ كما بينت التقارير الأخيرة ــ هي مرحلة إدارة الثروات الفردية أو العائلية بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية، وذلك يحتاج إلى وجود هيئات شرعية مستقلة كمصدر خارجي، أو لجهات خارجية لتوفيرها، وقد يؤدي هذا الأمر إلى نشر ثقافة المعاملات المالية الإسلامية في كل بيت وفي كل سوق كما أرشدنا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى التفقه في الدين إن أردنا الدخول إلى الأسواق خشية الحرام سواء أكنت بائعا أم مشتريا.
بالرغم من أن النداءات تتعالى هنا وهناك للاستعداد لمواجهة المخاطر التي قد تنشأ عن تعدد الآراء الشرعية في المعاملات المالية الإسلامية، إلا أن الحسم في هذه المسألة يتطلب قرارا ملزما من صناع القرار باعتماد هيئات شرعية مركزية في كل دولة، إضافة إلى السعي الحثيث لإنشاء لجنة شرعية مركزية عالمية تخاطب العالم برحابة الاختلافات الفقهية وتطرح غنى التجربة بأسلوب حضاري بدلا من أن نجد أنفسنا وقد وصلنا إلى مستوى أشباه العلماء الذين يعتلون المنصات بالصوت الجهوري وبدون إمكانات الإقناع ليسيطروا على عقول البسطاء.