أفعالهم كأقوالهم
منذ فترة ليست بالقصيرة والعالم العربي مشغول من خلال إعلامه ومسؤوليه بقضية استئناف المفاوضات مع الكيان الصهيوني حتى أصبحت المفاوضات القضية المركزية, وكأن التفاوض مع الصهاينة أصبح هدفاً في حد ذاته نسعى إلى تحقيقه لما يحققه من متعة لدى المتحاورين, خاصة الجانب العربي ممثلا في السلطة الفلسطينية التي جعلت من التفاوض قضيتها المركزية وانشغلت بها دون غيرها من القضايا.
التفاوض مشروط بإيقاف الاستيطان بالكامل, وفي كل فلسطين, وهذا شرط لا يمكن التنازل عنه, هذا ما نقوله ونكرره, ثم لا نلبث أن نغير اللهجة, ونتلاعب بالألفاظ, حيث لا مفر من إعطاء المفاوضات غير المباشرة فرصة لإحراج إسرائيل, وإظهار حقيقتها أمام العالم, وحتى لا يلام العرب, وبالأخص الفلسطينيين, ويوصفوا بأنهم يرفضون السلام. مسلسل لا ينتهي من أعمال الاستخفاف بالعقل العربي من قبل الصهاينة, ومن قبل اللجنة الرباعية, ومن قبل الوسيط الأمريكي الذي لا يمل من أن يكرر ليل نهار أهمية العودة إلى المفاوضات بين العرب والكيان الإسرائيلي, لأنه من دون التفاوض لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة, ولا يمكن إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة, المنزوعة السلاح, المنقوصة السيادة. كلما سمعت عبارة القابلة للحياة أو قرأتها, أستحضر صورة آدمي أدخل العناية المركزة, ووضعت عليه الأجهزة كافة التي تجعله قابلاً للحياة إلى ما شاء الله, لكن على هذه الأجهزة, حتى إذا ما رفعت الأجهزة انتقلت روحه إلى بارئها. ومع هذا الوصف للدولة الفلسطينية المرتقبة يكون الإصرار على استئناف المفاوضات من كل الأطراف, ونكرر صباح مساء هذه العبارة في الوسائط كافة.
جورج ميتشل المبعوث الأمريكي يتردد على المنطقة, ويزور الأطراف كافة لإعادة المحادثات, وأصدقاء أمريكا الصهاينة يمانعون حتى من تعليق بناء المستعمرات أو المغتصبات, رجاء لا نظير له, ولو بتصريح غامض وعام, ومع ذلك يصر الصهاينة على موقفهم لأنهم حددوا أهدافهم, ويعرفونها, ووضعوا الآليات التي تحقق هذه الأهداف, بمعنى آخر الأمور واضحة بالنسبة لهم ويسيرون وفق برامج عمل غير قابلة للتخبط, ولا يمكن التنازل عنها في أي ظرف من الظروف.
يتم التنسيق بشكل دقيق وواضح بين أمريكا والكيان الصهيوني, حيث يصرح نتنياهو بإيقاف بناء المستعمرات رغم أن ما قاله بالعبرية هو تأجيل بناء المستوطنات, بينما في الإنجليزية تترجم لتعليق البناء, ومع ذلك لا نأبه ولا نفكر في التلاعب بالمفاهيم والمعاني, وكأننا كالأطرش في الزفة, أو هكذا نحاول أن نكون. يصرح نتنياهو في تل أبيب ثم يصرح بعده ميتشل بثوان في واشنطن, لكن الاثنين يسعيان إلى تحقيق الأهداف نفسها.
يحضر جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي إلى المنطقة, صديق إسرائيل المخلص المدافع عنها منذ عشرات السنين, ويقابل نتنياهو مترجياً إياه بكلمة تحلحل الموقف, ومع ذلك توجه له إدارة الكيان الصهيوني صفعة على وجهه بالإعلان عن بناء 1600 وحدة سكنية في القدس, مع وعد بزيادتها إلى 20 ألفا.
يغضب البيت الأبيض, ويعد هذا إهانة, لكن الإهانة تعالج بالمداراة, ولين الجانب, والتمثل بالمبدأ الإسلامي ادفع بالتي هي أحسن. وجاء الرد الأمريكي من خلال مؤتمر الإيباك بالتعهد بأمن إسرائيل, كيف لا وهي الصديق الحميم, الذي يشترك مع أمريكا في كثير من المصالح والقيم. مجلس جامعة الدول العربية يسبق الأحداث, ولأنه يمتلك الحاسة السابعة لذا قرر دعم المفاوضات غير المباشرة حتى وإن لم يتوقف بناء المستعمرات شعوراً منه بالمسؤولية تجاه قضية العرب المركزية التي لا يمكن التفريط فيها, وربما خوفاً من صفعة يوجهها الكيان الصهيوني إليه رغم أنه اعتاد هذه الصفعات, ولم يعد يخاف منها, إذ سبق له مشاهدة هدم المنازل, وحرب غزة وإخراج الساكنين من منازلهم, والاستيلاء على المسجد الإبراهيمي, ومسجد بلال, والقائمة تطول.
أوباما , بايدن, كلينتون, كلهم يقسمون على الكتاب المقدس, وعلى شاشات التلفاز وأمام العالم أجمع كي يشهد على محبة هؤلاء للكيان الصهيوني, وعلى تعهدهم بأمنه الذي لا يمكن التفريط فيه, مع الالتزام بتزويده بكل احتياجاته العسكرية والاقتصادية, ومع ذلك يستمر الكيان في العمل, وفي التأكيد اللفظي الذي لا مراء فيه, ولا يقبل الشك في أي حرف من حروفه. توسلات, ورجاء, ويزور نتنياهو أمريكا, ويلتقي أوباما, ويفشل اللقاء كما نعتقد, أو كما يقال لنا وتنقله وسائل إعلامنا. يعود نتنياهو إلى الكيان ليعلن النية عن بناء 20 وحدة سكنية في حي الشيخ جراح, قابلة للزيادة بالآلاف, ويتم هذا في حين يلتئم مجلس الجامعة العربية في سرت الليبية قبيل انعقاد القمة العربية. كل هذا ونحن نفكر هل نبقي المبادرة العربية, أم نسحبها من الطاولة؟ الأفضل أن نبقيها حتى لا يساء فهمنا كعرب من أننا لا نريد السلام. ونحن أمة السلام, وديننا دين السلام, ونرجوكم أن نعيش معكم على قطعة من أرضنا بسلام يا أبناء العم. هكذا هو مشوار العقود الماضية, ومسيرة الصراع حيث أدرك الصهاينة, ووظفوا الأسس النفسية في التعامل مع العرب, ومع غير العرب, لقد وجدوا أن العرب لديهم خاصية التنازل, وقلة الصبر ما يدعوهم للتحرك إلى الخلف بدلاً من التحرك إلى الأمام, كما أدركوا أن التعنت يترتب عليه مكافآت واسترضاء من قبل الأطراف كافة. إن حسن إدارة الأزمة يتطلب معرفة وإلماماً بالخلفية النفسية, والتربوية والاجتماعية إذا ما رغبنا النجاح في إدارة الصراع مع الآخرين.