نوافذ: رغم التهديد
كان لافتا للنظر أن أسعار النفط سجلت بعض التراجعات يوم الأربعاء الماضي عند إغلاق الأسواق بسبب الإعلان عن زيادة في المخزونات الأمريكية أكبر مما كان متوقعا. والنقطة الجديرة بالاهتمام أن هذا التراجع جاء بعد التهديدات التي أطلقها أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة باستهداف بعض المواقع النفطية.
وأهمية هذا التطور أنه يجعل من أساسيات السوق وآليات العرض والطلب المرتكز الرئيسي الذي يمكن أن يتحكم في حركة الأسعار صعودا وهبوطا، وأن العوامل الأخرى ذات الطبيعة النفسية أو الإعلامية أصبحت في حال تراجع. فلفترة بعيدة ظل الهاجس الأمني يلعب دوره، خاصة ذلك الذي يتعلق ببعض الدول المنتجة واحتمال تأثير ذلك على الإمدادات، وهو أمر اكتسب حساسية بسبب معدلات الإنتاج العالية لدى الدول الأعضاء في منظمة أوبك من ناحية ولعدم توافر طاقة إنتاجية فائضة من الناحية الأخرى، وهو ما جعل السوق أكثر استجابة لأي دعاوى تتعلق بضمان تدفق الإمدادات.
من ناحية أخرى، فإن استمرار هذه التهديدات لفترة طويلة وما شهدته بعض المرافق النفطية، أدى إلى أن تتوطن السوق على ما يجري في هذه الجبهة، وأنه حتى على افتراض حدوث هجوم تخريجي على بعض المنشآت النفطية، فإنه في الإمكان امتصاص تبعاته سواء عبر منتجين آخرين، أو القيام بإصلاح المرافق المستهدفة مثلما يحدث في العراق حاليا، لدرجة أن الأخبار المتعلقة بالهجوم وتخريب خطوط الأنابيب لم تعد تشكل هاجسا نفطيا له تأثيره الحاد في السوق وتعاملاتها.
وإذا كانت حالة التعود التي أخذت السوق نفسها عليها أحد التفسيرات التي يمكن ذكرها في هذا الصدد، فإن العامل الأكبر في حالة الاطمئنان هذه يعود إلى أن السوق تعيش أفضل أيامها من ناحيتي العرض والطلب وتبادل الرؤى والمعلومات بين المنتجين والمستهلكين، وأنه ورغم الأسعار العالية المحلقة في سماواتها هذه منذ نحو العامين، إلا ان اقتصادات الدول المستهلكة الرئيسية أثبتت قدرتها على امتصاص الأسعار العالية.
كما أن خطوات بناء الثقة التي انتهجتها "أوبك" في الآونة الأخيرة لعبت دورا لا يستهان به فيما يتعلق بنشر مناخات إيجابية أكثر قدرة على تمحيص الوقائع، وبالتالي أصبح من الممكن حساب تحرك الأسعار في إطار الهامش الذي تسمح به أساسيات العرض والطلب. فلفترة طويلة وبسبب حالة عدم اليقين وغياب الوضوح الذي جمع بين أطرافه عناصر عديدة من عوامل سياسية واقتصادية وأمنية، فإن الأسعار والسوق عموما أصبحتا أكثر انفعالا وتوترا يرفعهما تصريح إلى الأعالي ويهبط بهما تصريح آخر إلى أسفل، بل وبلغ الأمر ببعض التجار أن يقوموا بإطلاق شائعات تستمر إلى وقت كاف لتصريف شحنات أو الحصول على أخرى بالسعر المطلوب. والجاني في هذا كله حالة الاضطراب التي تعيشها السوق.
ومع أن دول "أوبك" ظلت تنتج بأقصى قدرتها لفترة تزيد على العام، إلا أن قيامها بخطوات أخرى أسهم في تعزيز مناخات الثقة هذه. فهناك القرار الذي قامت به العديد من الدول الأعضاء بوضع خطط زيادة طاقتها الإنتاجية موضع التنفيذ، ثم الإعلان عن طرح مليوني برميل يوميا تكون متاحة للمستهلكين ضمانا في هذا الوقت من العام، حيث يشتد الطلب لمواجهة فصل الشتاء، ثم جاءت النقلة الأخيرة وإبداء المنظمة رغبتها أن ترى المخزون يغطي فترة 56 يوما من الطلب رغم ما قد تشكله خطوة مثل هذه من تهديد لوضع الأسعار مع مطلع الربع الثاني من العام المقبل.
الهدف الذي نجحت هذه الخطوات في تحقيقه تمثل في بناء لبنات الثقة وتزايد الإحساس بوجود مصدرين على قدر من المسؤولية تمكنهم من مقابلة احتياجات المستهلكين، ولهذا فإن العرض بطرح مليوني برميل تكون تحت تصرف المستهلكين لم تستغل منه إلا نسبة قليلة جدا، وذلك لأن النفط أصبح متوافرا وعليه فليست هناك ضرورة لتحمل أعباء تخزينية وغيرها.
عنصر الثقة هذا هو أهم إنجاز تحققه "أوبك" منذ سنوات طويلة. ومن المفارقة أن تحقق هذا الإنجاز في الوقت الذي تلاحق فيه السوق لتوفر لها احتياجاتها. فغياب الثقة لعب دورا رئيسيا في الاتجاه إلى بناء المخزونات التي استخدمت في بعض الأحيان ضد الدول الأعضاء في "أوبك"، وغياب الثقة في توفير الإمدادات وعدم القدرة على تسكين الأسعار في معدل معقول أسهم في الدفع باتجاه البحث عن بدائل للنفط كمصدر للطاقة.
المطلوب القبض على هذا الإنجاز بقوة، لأنه يمكن أن يكون مدخلا لعلاقة أكثر صحية بين المنتجين والمستهلكين. فعدم اهتمام الطرفين ببعض في السابق يعود في جزء منه إلى غياب عنصر الثقة. وعودة هذا العامل إلى الساحة في الوقت الحالي يشكل إضافة ما بعدها إضافة يمكنها من تجسير تراث ضخم من الفشل في اتجاه معبر تستقر عليه علاقات الطرفين.