رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


النفق الأمريكي المظلم

أولاً أشكر كل الإخوة الذين علقوا على مقال الأسبوع الماضي المتعلق بموضوع الدين العام وعجز الموازنة الأمريكية، وأخص بذلك الزميل العزيز الدكتور مقبل الذكير والدكتور محمد السقا. وكنت قد أشرت في المقال إلى أن الدين العام الأمريكي, الذي يساوي تقريباً الناتج المحلي الإجمالي, وتفاقم عجز الموازنة الأمريكية الذي فاق التريليون دولار هذا العام بجانب تداعيات الأزمة, تترك خيارات صعبة أمام متخذ القرار الأمريكي. فإما اللجوء إلى السياسة المالية لكبح جماح الإنفاق الحكومي وإما زيادة الضرائب, وكلاهما سيؤديان إلى الدخول في الركود مرة أخرى.
أما خيارات السياسة النقدية فهي محدودة أيضاً, فإما اللجوء إلى السياسة التضخمية بترك سعر الفائدة منخفضاً مما سيخفض من قيمة العملة (وإما زيادة عرض النقود من خلال طباعة مزيد منها) وهو ما قد يؤدي إلى تضخم في قيمة الأصول، لكنه سيجنب الاقتصاد الدخول في الكساد مرة أخرى، وإما اللجوء إلى تخفيض قيمة العملة وهو غير متاح بالنسبة إلى الدولار لعدم ارتباطه بعملات أخرى يمكن إعادة تقييمه بناء عليها. وأشرت إلى أن الحكومة الأمريكية لاعتبارات سياسية ستتبنى الخيار الثاني, وهو السياسة التضخمية, لأن أي خيار آخر سيكون مكلفا سياسياً.
ولم يكن الهدف من المقال الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تسير في طريق مسدود, وأن الصورة ضبابية بالكامل، لكن التنبيه إلى أن الاقتصاد الأمريكي يمر بظروف معقدة للغاية سيكون أي قرار بشأنها مكلفا سواءً على مستوى الاقتصاد الأمريكي نفسه أو على مستوى الاقتصاد العالمي. وهنا أشير إلى أن رقم الدين العام الأمريكي يتعلق فقط بدين الحكومة الفيدرالية دون أخذ المشكلات المالية المتدهورة في الولايات والحكومات المحلية في الاعتبار. على الرغم من أن القانون يلزم الولايات والحكومات المحلية بموازنة متوازنة سنوياً، إلا أن مشكلات أنظمة التقاعد وضياع كثير من أصولها خلال الأزمة سيشكل تحدياً كبيراً للحكومة الأمريكية على المديين المتوسط والبعيد.
عدد من التطورات حدثت هذا الأسبوع تؤكد ما أشرت إليه في المقال أوجزها فيما يلي:
أولاً: تقرير مؤسسة التصنيف الائتماني موديز حول الدين العام للدول: أشارت موديز إلى أنها قلقة من ارتفاع معدل الدين العام الأمريكي، على الرغم من عدم وجود مخاطر آنية بشأنه. وأن خفض الإنفاق الحكومي قريباً سيهدد بالدخول في الركود مرة أخرى Double-Dip Recession وفي الوقت نفسه الاستمرار في حزم التحفيز سيؤدي إلى زيادة حادة في أسعار الفائدة نتيجة التضخم, ما قد يؤدي إلى إعادة النظر في التصنيفات الائتمانية, فبالنسبة إلى مدفوعات الفائدة على دين الحكومة الفيدرالية والمحلية فقد ارتفعت حالياً إلى ما نسبته 10 في المائة من الموازنة الأمريكية، وهو المؤشر الذي تبدأ بعده مؤسسات التصنيف الائتماني بالنظر في إعادة التصنيف. إضافة إلى ذلك، فقد أشارت ''موديز'' إلى أن تكلفة خدمة الدين الأمريكي أعلى من تكلفة خدمة الدين في كل من بريطانيا وألمانيا حتى إسبانيا، وهذا ما جعلها تشير إلى أن خفض التصنيف الائتماني في الولايات المتحدة أكثر احتمالاً من إسبانيا، على الرغم من كون ذلك أحد العوامل فقط في تحديد هذا القرار من عدمه.
ثانياً: تصريحات نوريل روبيني, أحد الاقتصاديين القلائل الذين تنبأوا بالأزمة الاقتصادية يشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي أمام معضلة كبيرة، السحب المبكر للدعم أو السحب المتأخر، وكلاهما نتيجته قد تكون سيئة. فتأخر الخروج ربما يفاقم عجز الموزانة الأمريكية ما يستوجب التعامل معه لتخفيف التكهنات التي يعكسها التذبذب في أسواق المال. وأن الصراع بين قطبي الكونجرس الأمريكي حول زيادة الضرائب (الديموقراطيين) أو خفض الإنفاق (الجمهوريين) لخفض عجز الموازنة ربما يهدد مسار النمو الاقتصادي. روبيني يتفق على أن هناك صورة ضبابية بشأن مسار الاقتصاد الأمريكي، ويرجح بشكل كبير الدخول في دوامة ركود أخرى Double-Dip Recession للتعامل مع عجوزات الموازنات وارتفاع المديونية العامة التي بلا شكل تمثل عبئاً كبيراً على النمو الاقتصادي.
ثالثاً: قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي: قررت لجنة سياسات السوق المفتوحة في اجتماعها الثلاثاء الماضي الإبقاء على سعر الفائدة Federal Fund Rate دون تغيير عند مستوى يراوح بين صفر و0.25 في المائة لفترة طويلة. واستخدمت اللجنة عبارة Extended Period بدلاً من Some Time وهو ما يدل على أن هناك توجها للاستمرار على هذا المستوى على الأقل خلال الأشهر الستة المقبلة. هذا يفسر بشكل كبير بالخشية من أن زيادة سعر الفائدة ستؤدي إلى تفاقم وضع الدين العام الأمريكي وسيهدد ـ كما أشارت ''موديز'' ـ التصنيف السيادي الأمريكي الذي يتمتع بمتانة كبيرة.
باختصار الوضع الاقتصادي الأمريكي حرج والتعامل معه كمن يمشي على حد السيف. لكن ما الخيار الأفضل للخروج بالاقتصاد الأمريكي دون الدخول في دوامة ركود أخرى؟ الطريق الذي يبدو أن الحكومة الأمريكية اختارته هو زيادة الصادرات بشكل كبير بحيث تدعم نشاط الصناعة الأمريكية، وتحفز التوظف، وتزيد عائدات الضريبة، وتخفف بالتالي من عجز الموازنة. وتحقيق ذلك يتطلب عنصرا أساسيا ومهما وهو دولار منخفض لزيادة تنافسية الصادرات الأمريكية، وهو ما دأبت الولايات المتحدة حالياً عليه. حيث أعادت الولايات المتحدة حالياً ممارسة ضغوطها على الصين لإعادة تقييم اليوان الصيني. وأحد أبرز هذه الضغوط المحافظة على معدلات فائدة منخفضة على الدولار الأمريكي التي يعدها الصينيون نوعاً من الإعانة للمنتج الأمريكي. أي أن الطريق الذي اختارته أمريكا للخروج من هذا النفق المظلم هو ما أشرت إليه في المقال السابق، وهو السياسة التضخمية التي ستؤدي إلى انخفاض كبير في قيمة الأصول الأجنبية المودعة في الولايات المتحدة, وفي الوقت نفسه ارتفاع في عائدات التجارة مع العالم الخارجي، ما سيسهم بشكل كبير في تحسين وضع الميزان التجاري الأمريكي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي