دعوة للتعامل مع ميزانية وزارة الصحة بشكل أفضل
تدور حوارات في كثير من المجالس عن أن حكومة خادم الحرمين الشريفين دعمت وزارة الصحة بميزانيات تاريخية خلال السنوات القليلة الماضية. وعلى الرغم من كل هذا الدعم الحكومي إلا أن مخرجات القطاع الصحي أقل من التوقعات المطلوبة سواء في نظر المواطن أو المسؤول. ويتساءل الكثير: أين الخلل؟ ولماذا لا تتحسن الخدمات الصحية في ظل دعم لا محدود من قبل حكومة خادم الحرمين الشريفين؟
لقد سبق لي التطرق إلى جانب من هذا الخلل في عدة مقالات سابقة ولكن لعلي أتطرق إلى الموضوع ولكن من زاوية أخرى هي زاوية آلية اعتماد الميزانيات الصحية.
من المعلوم أن ميزانية وزارة الصحة تصدر كجزء من الميزانية السنوية للدولة. فالميزانية ترصد وفق مفاوضات تتم بين وزارة المالية والوزارات المعنية بشكل سنوي على أساس احتياجات أو مدخلات Inputs دون الخوض في المخرجات المتوقعة من الميزانية بعد اعتمادها Outcomes بصورة عملية. هذه الصيغة من الميزانيات تسمى line items budget.
ولعل سهولة التعامل مع الميزانية على أساس line items budget جعل هذه الصورة هي الصيغة المتبعة في اعتماد الميزانيات عموما بما فيها ميزانية وزارة الصحة. كما أن مرونة هذه الصيغة خصوصا في التعامل مع عجز الميزانية - في حال حدوثه - جعل لهذه الصيغة الأولوية والأفضلية في اعتماد الميزانية السنوية. لكن هذه الصيغة من الميزانية line items budget لا تمكن صانع القرار من معرفة تأثير المدخلات على المخرجات بشكل دقيق ومحدد, خصوصا عند اعتماد ميزانيات ضخمة تتمتع بوفرة كبيرة. لذا قررت بعض الحكومات المحلية في أمريكا عندما كانت تتمتع بميزانيات ذات وفرة جيدة (حقبة الرئيس الأمريكي بيل كلنتون في أواخر التسعينيات الميلادية) إلى تغيير طريقه اعتماد ميزانيتها من أجل استثمار الميزانية بشكل أفضل. فتم اعتماد الميزانية بطريقة البرامج Program Budget. ولقد حققت صيغة الميزانية بطريقة البرامج نجاحات مذهلة خصوصا البرامج والمشاريع التي تتطلب ميزانية ضخمة ومراحل تنفيذ طويلة الأمد. لكن ما يعاب على صيغة الميزانية الحكومية بطريقة البرامج Program Budget أنها تتطلب جهدا كبيرا في إعدادها نظرا لاشتراطها تسجيل كل المخرجات المتوقعة من الميزانية قبل اعتمادها بالتفصيل. كما أن هذه الصيغة تتطلب ضمانا بتوافر السيولة المطلوبة لمدة ثلاث سنوات لكون الميزانية ترصد كل ثلاثة أعوام.
نحن ننعم بميزانيات رفاهية ووفرة وهي ميزانيات تحفزنا لمراجعة صورة الميزانية Budget Format حتى تحقق أهدافها بشكل أفضل. فالملاحظ أن مشاريع وزارة الصحة يتم التركيز فيها على عدد المستشفيات أو مراكز الرعاية الصحية المقرر إنشاؤها لكنها لا تركز على المخرجات المتوقعة من جراء تشييدها. فمثلا خطة وزارة الصحة لتشييد ألفي مركز صحي لا تعني بالضرورة أن هذه المراكز ستسهم في رفع مستوى الخدمات الصحية إلا إذا تم تزويدها بالكفاءات الطبية والتجهيزية والفنية اللازمة, وهو أحد التحديات التي يواجهها القائمون على وزارة الصحة. لذا يجب أن يربط تشييد مراكز الرعاية الأولية بمخرجات تلك المراكز. بمعنى يربط عدد الأطباء (سواء استشاريين أم إخصائيين) في كل مركز صحي وبالتغطية الجغرافية المتوقعة من كل مركز.
من المؤسف أن صرف الميزانيات من أجل زيادة عدد المستشفيات يعد أكثر جاذبية من تطوير مستوى الخدمات الصحية لكون الأول رقما ملموسا Tangible Services، بينما الخيار الثاني ليس له واقع ملموس. لذا نجد أن تطوير مستوى الخدمة قد لا يكون له رونق تشييد مزيد من المستشفيات. كما أن طريقة اعتماد الميزانية من قبل وزارة المالية يحفز وزارة الصحة لأن تركز على سياسة الإنشاء بدلا من التركيز على رفع الجودة الصحية. فزيارة المريض للمستشفى أو إلى المركز الصحي لا تعني بالضرورة أن المريض حقق الهدف الذي من جرائه ذهب إلى المستشفى أو إلى المركز إذا لم يتلق الرعاية الصحية المطلوبة, فضلا أن يصاب بمضاعفات سلبية لزيارته.
لذا فإنني أدعو وزارة المالية ووزارة الصحة إلى تغيير الصورة التقليدية السابقة للميزانية line Items Budget وتبني صورة ميزانية البرامج Program Budget، وأن يكون لدى وزارة المالية الكفاءات البشرية القادرة على تحليل وتقييم الطلب قبل اعتماد الميزانيات الصحية.
ختاما: إنني على إيمان تام بأن اعتماد الميزانية الصحية بصيغة البرامج Program Budget يبرر الآليات التي في ضوئها اعتمدت مصروفات الميزانيات الصحية الضخمة. كما يجعل الرقابة على الصرف على الخدمات الصحية يتم وفق مخرجات متوقعة. كما أن هذا الصيغة ستساعد على رفع الجودة الصحية لكون الجودة غير مرئية في الصورة التقليدية للميزانية لكن هذه الصيغة من الميزانية تتطلب أن يكون لدى وزارة المالية الكفاءة البشرية القادرة على تقييم المشاريع الصحية وفق المخرجات الصحية.