حراك التعليم العالي نموذج يستحق الدراسة
إذا كان الاقتصاد المبني على المعرفة جامعا لشتات مجتمعات العالم، ولافظا للتفرد والعنصرية، وداعما للشبكة الاجتماعية الواحدة، ومنهيا لعصور الظلام الدامس، ومؤسسا لتنمية تستديم، فما الأداة التي يمكن أن تستخدم فتكون الحل المستقبلي لمشكلات الأمم؟ إنه التعليم المتميز والمتخصص الذي يركز على تقارب الأوطان من خلال الانفتاح العلمي؛ الذي يحرك الاقتصاد بين أركان العالم، فيتحقق لها مكاسب بشرية تكون هي الحارس على المكاسب المالية والمادية، التي ستمول المشاريع الإنسانية النافعة المكملة لدورة الحياة في الأرض التي باتت شعوبها تحت مظلة واحدة.
إن التجمع الدولي لمؤسسات التعليم العالي الذي عقد في الرياض في الفترة ما بين (11 و14 من صفر) من هذا العام 1431هـ، لهو المناسبة التي قطفت بها المملكة ثمرة عمل وطني غير مسبوق قاده خادم الحرمين ــ يحفظه الله ــ برعايته ودعمه اللامحدود عبر أربع سنوات من الحراك المتتابع والمتواتر. لقد تخطى هذا القطاع بهذه الوقفة مرحلة المشاركة في التنمية إلى أن يكون حراكا تنمويا أساسيا تبنى عليه الاستراتيجيات والخطط المستقبلية لوطن بأكمله. دول عدة كانت تود تحقيقه فتسبقنا في العلم الحديث واستخدام التقنية ونماء أوطانها بالأسلوب المنهجي السليم. ولكن فوجئ الحضور من أبناء الوطن وغيرهم أنهم، خلال وجودهم في المعرض، أنهم كانوا مسافرين وهم على أرض السعودية، وازدادوا معرفة بخلفية 300 جامعة عالمية في سويعات قليلة يمكن أن يقضوا، للهدف نفسه، أياما عديدة لجمع هذه المعلومات والتواصل مع من أرادوا منها عبر شبكة الإنترنت.
الجهات التي عرضت خدماتها وخبراتها اتحدت في الرؤى والأهداف ووجدوا في مكان واحد وتعلموا من بعضهم بعضا الشيء الكثير. لقد كان التنافس شديدا في العرض، ولكنه أحيط بالتقدير والاحترام والجدية والمصداقية. أسلوب الجامعات لم يتوحد فقط في استقطاب السعودي للدراسة أو التأهيل ولكن أيضا في بناء الشراكات المستقبلية مع بعضها بعضا، لاغية الحدود وواضعة كل الأنشطة الثقافية والاقتصادية تحت مظلة واحدة. لم يكن الآباء هم فقط من يملأ الاستمارات أو طلب التأشيرات. ولم تكن جامعاتنا الحكومية والخاصة هي التي تقوم فقط بعمل الاتفاقات وتوقيع المذكرات ومد جسور الربط بينها وبين بعض من هذه المؤسسات الحاضرة. ولم تكن الشركات قادمة لتتعرف على إمكانات هذه الجامعة أو تلك فقط. بل كانت الجامعات الدولية نفسها تتحين الفرص، في اقتناص دقيقة من وقت المسؤول في هذه الجامعة أو تلك، فتبادلت المعلومات وجددت الصلات وجلسوا يفكرون في كيفية تطوير أساليب المشروعات، بل دعم بعض الدراسات لقضايا بينهم فيها قاسم مشترك. وهذا إنجاز كبير في حد ذاته تم على أرض الوطن.
إن السنوات الأربع الماضية، وعدد الجامعات المفتتحة خلالها، وماهية التخصصات المستجدة كما ونوعا، وعدد الطلاب الملتحق بالجامعات والعدد الآخر المبتعث لجامعات العالم، وعدد الطلاب الوافدين للدراسة في جامعاتنا، واختلاف تأثير النقلة النوعية في التعليم العالي في هذه الفترة على الفرد في المجتمع عاملا أو طالبا أستاذا، ذكورا وإناثا، وما خصص لذلك من ميزانيات تزداد سنويا بشكل مطرد، ما هي إلا معطيات ثرية من كم من المعطيات التي لا بد من الاستفادة منها، في إجراء بحث وطني يبرز ويجسد حنكة حكومتنا الرشيدة، في اتخاذ أسلوب جديد في تناول موضوع التنمية المستدامة. أعتقد أيضا أن التواصل مع المتحدثين ومحاولة الحصول على نسخ من تقاريرهم أو دراساتهم أو أحاديثهم التي عكست خبراتهم في تدويل التعليم العالي، وأوجزوا عرضها في المعرض سيوفر كثيرا من الوقت لكثير من الباحثين في العلوم المختلفة في جامعاتنا السعودية وسيغذيهم بكم معلوماتي كبير يمكن أن يكون منطلقا لأفكار بحثية متميزة. إن بمد جسور الربط مع الأفراد والمؤسسات المدنية، وتعرف المؤسسات على النقلة الحضارية التي تعيشها المملكة، سيكون التجمع الدولي القادم للتعليم العالي، في نيسان (أبريل) عام 2011م ــ بإذن الله ــ أكثر إثارة وأكبر في المردود؛ علميا واقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا.
أعتقد أن الثلج سيذوب بيننا وبين كثير من الدول التي وضعت حكوماتها مجتمعنا تحت المجهر بحساسية مفرطة. في الواقع لم تجن منه إلا إصرار ولاة الأمر، يحفظهم الله، على اتخاذ السِّلم والعِلم مسيرة لتنمية الإنسان ووطنه. مجتمعات هذه الدول الآن اندمجت مع المجتمع الدولي، وتقاربت أفكارهم مع أفكار الأمم الباقية في الاستفادة من الموارد بين بعضهم بعضا، سعيا وراء التميز في فكر معين أو صناعات جديدة. لقد تشاركوا جميعا في بناء استثماراتهم على دراسات مبنية على تأصيل علمي متطور، وتبادل للمعرفة بين المعلم والطالب، وبين الطلاب وأقرانهم من كل صوب، وبين المؤسسات المدنية بجميع أنواعها في كل مكان وفي كل مجال.
هذا الحراك الكبير في وزارة التعليم العالي، واستمرار إقامة الأنشطة والمناسبات العلمية، وتوقيع عديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين المؤسسات المدنية، تمهد لكثير من مؤسسات القطاع الخاص المختلفة أيضا أن تبادر بحجز مقاعد لها على هذه الرحلة بالذات، لأن القيادة الرشيدة رسمت مسارا للمملكة يمكن أن يتحمل «التغيرات والتقلبات المناخية» لمدة لا تقل عن الـ 50 عاما مقبلة. هذا الثبات سيتوج بانعقاد المؤتمر العلمي الأول لطلاب وطالبات التعليم العالي الذي سيقام في منتصف شهر ربيع الأول المقبل من هذا العام ـ بإذن الله. بمثل هذه الأنشطة المتميزة ستكون الإضافة نوعية، حيث ينفذه ويديره ويتابع تنفيذه الطلاب والطالبات أنفسهم، تحت إشراف لجان أكاديمية متخصصة. وفي هذا سيتم استخلاص بعض الأفكار الثقافية والاقتصادية الجيدة لهذا الحدث في مقال لاحق ــ بإذن الله ــ، والله المستعان.