زكاة «ضريبة» الأرض (2)
أستكمل اليوم ما أشرت إليه الأسبوع الماضي حول أهمية تطبيق زكاة (ضريبة) الأرض، وبالتحديد آثارها الاقتصادية. ففي أدبيات التمويل العام، نجد أن ضريبة الأرض طرحت من قبل الاقتصادي هنري جورج في نهاية القرن الـ 19، وهو فيلسوف يؤمن بأن الإنسان لا يحق له أن يملك إلا ما قام بصنعه، فهو يملك المبنى لكن لا يملك الأرض التي يقام عليها المبنى، وهو ما يبرر فرض ضريبة على الأرض. كما أن الإسلام سبق بقرون عديدة الفكر الاقتصادي الحديث في تقرير الزكاة على الأرض، لكي لا تتركز الملكية بما يؤدي إلى إضرار بالمصالح العامة للمسلمين. لكن الواقع يشهد على أن هناك تقصيرا كبيرا في أداء زكاة الأرض على الرغم من سهولة تقديرها حسب الأسعار السائدة في السوق، وهو ما يستلزم قيام الدولة بجباية هذه الزكاة تحقيقاً للمصلحة العامة للمسلمين.
وقد واجهت ضريبة الأرض التي قدمها هنري جورج معارضة شديدة وتم إحباط العمل بها بواسطة جماعات الضغط التابعة لرجال الأعمال وملاك الثروات، على الرغم من جدواها الاقتصادية سواءً من الناحية النظرية أو الناحية التطبيقية، وهو ما يدل على أن هناك شيئا مشتركا يجمع بين مسألة عدم تطبيق زكاة أو ضريبة الأرض على نطاق واسع، بسبب قوة نفوذ ملاك الأراضي في جميع الدول تقريباً، ما يمكنهم من إحباط أي محاولة لمناقشة هذه القضية على الرغم مما تنطوي عليه من تحقيق مقاصد الشريعة في حالة الزكاة، وما تنطوي عليه من تحقيق الكفاءة الاقتصادية والعدالة في كلتا الحالتين: الزكاة والضريبة.
فزكاة أو ضريبة قيمة الأرض يمكن أن تحل محل جميع الضرائب الأخرى: كضريبة الدخل، ضريبة الملكية، ضريبة الاستهلاك، حال تطبيقها، لما تحققه من عوائد كبيرة لخزينة الدولة، ولما تنطوي عليه من سهولة إجراءات التطبيق، كما أنها تؤدي إلى كفاءة في استغلال الأراضي، وتشجع على إعمارها طالما أن ذلك يحقق جدوى اقتصادية، إضافة إلى ما لذلك من دور في الحد من المضاربات غير المبررة بهدف التكسب والإثراء على حساب مصالح العامة الذين يرغبون في استغلالها للسكن أو لإقامة مشاريع إنتاجية حقيقية، بما يحد بشكل كبير من تركز ملكية الأرض في أيدي فئة قليلة من الناس تتحكم في مصائر الناس.
ولزكاة (ضريبة) الأرض ما يبررها منطقياً. فمن ناحية، فإن كثيرا من الخدمات التي تخدم وتسهم في زيادة قيمة الأرض تمول من قبل الدولة (أو من خلال رسوم تفرض على المواطن). مثال ذلك، خدمات المياه والصرف الصحي، الكهرباء، الهاتف، المدارس الحكومية، المراكز الصحية، ومراكز الشرطة. كل تلك الخدمات تسهم بشكل مباشر في زيادة قيمة هذه الأرض. ومن ناحية أخرى، فإن المشاريع العامة التي تقوم بها الدولة تسهم في زيادة قيمة الأرض بشكل غير مباشر، كقرار توفير مياه التحلية لمنطقة أو لمدينة ما سيسهم في زيادة جاذبية السكن في هذه المدينة والمناطق المجاورة لها، أو إنشاء مدينة صناعية وإيصال الطرق إليها سيسهم في ارتفاع قيمة الأراضي المجاورة لها، أو قرار أمانة إحدى المدن بتحويل أحد الطرق الرئيسة إلى شارع تجاري وتقديم الخدمات اللازمة من رصف وإنارة وغيرهما.
هذا من الناحية المنطقية، أما من الناحية الاقتصادية فإن كفاءة الضريبة تحدد بناء على عاملين رئيسيين: الأول تكلفة تحصيلها، والثاني تحقيقها الهدف الاقتصادي والاجتماعي المراد منها. وزكاة (ضريبة) الأرض تستوفي العاملين معا، فهي تتميز بسهولة حسابها، وتطبيقها لا يتطلب كثيرا من الإجراءات المعقدة مقارنة بضريبة الشركات مثلاً أو زكاة الأنعام. فطالما أن الأراضي محددة بصكوك ملكية تحدد مساحتها، موقعها، وتاريخ امتلاكها، فمن السهولة بمكان معرفة قيمتها السوقية، وتحديد قيمة الزكاة (الضريبة) بناء على ذلك. أما من حيث العامل الثاني وهو تحقيقها الهدف الاقتصادي والاجتماعي فهو يرتبط بقدرة الأفراد على تغيير سلوكهم نتيجة فرض الزكاة (الضريبة)، أو بمعنى آخر قدرتهم على تحويل تكلفة الضريبة إلى فئة أخرى من الناس كالمستهلك النهائي.
والسبب في ذلك، أن العرض من الأرض غير مرن، بمعنى أن صاحب الأرض لا يستطيع أن يحد من العرض منها وبالتالي رفع سعرها وتحميل المستأجرين أو الذين يرغبون في شراء أرض لاستغلالها، إلا في حالة عدم وجود زكاة أو ضرائب عليها، وبالتالي فإن الاحتفاظ بها لا يكلفه شيئاً، بل يزيد من قيمتها كما هو الواقع حالياً. أما إذا تم فرض الزكاة أو الضريبة، فإن مالك الأرض سيضطر إلى التخلص منها وبالتالي ستمثل تكلفة الضريبة انخفاضا في قيمة الأرض يتحملها المالك نفسه ولا يستطيع تحويلها إلى المستأجر أو الراغب في استغلال الأرض. ومن مميزات زكاة أو ضريبة الأرض، أنها أيضاً ليست كضريبة الدخل التي تعد في نظر بعضهم عقاباً على الإنتاجية، بل إنها تشجع على استغلال الأرض بالوجه الصحيح، كما تحد من الاتجاه إلى أطراف المدن، وتسهم بشكل كبير في زيادة التنمية في وسط المدن بما يعكس القيمة الحقيقية لهذه المواقع التي تعاني في كثير من المدن تدني الرغبة في الاستثمار فيها.