الهدايا المجانية.. رسائل SMS أنموذجا
قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال مفاده: وهل هناك هدايا بمقابل مادي؟
والجواب: أن هناك ما يسمى عند الفقهاء هدايا الثواب, أو هبة الثواب, وهي الهدايا التي يقصد منها أخذ العوض, واعتبرها الفقهاء من باب البيع؛ لأنها وإن كانت هبة في اللفظ, لكنها بيع من حيث المعنى والحقيقة, ومن هنا جاء النص الإلهي الكريم بالنهي عن هذا الأسلوب في قوله عز وجل: (ولا تمنن تستكثر) أي: لا تهدي الهدية تريد أكثر منها.
وبالعودة إلى مقصود الموضوع, أقول: إن من يتأمل كلام الفقهاء المستمد من مقاصد الشريعة, وقواعدها الكلية, يجد عجباً في البعد الأخلاقي والاجتماعي والتربوي والنفسي في كثير من الأحكام الفقهية.
ولنقف وقفة تأمل مع بُعْدٍ واحد من هذه الأبعاد, وهو البعد النفسي للأحكام الفقهية, فنجد الفقهاء - مثلا - قد تحدثوا عما يسمى بـ «لحوق المنة» وأثره في إسقاط عديد من الأحكام الشرعية؛ مراعاة لهذا البعد النفسي, وهو يجسد واقعاً فقهياً عميقاً لما يسمى اليوم بـ «حقوق الإنسان» في أدق صوره, بل إن الدول المتحضرة اليوم لم تحظ بمراعاة البعد النفسي للآدمي, كما راعته الشريعة الإسلامية, ممثلة في كلام الفقهاء المستمد من منبعها الصافي حول ما يسمى بـ «لحوق المنة» كمثال بسيط على ذلك, ليس إلا.
ولتوضيح هذا المفهوم الفقهي, نجد أن فقهاءنا الأجلاء قد قرروا عدة أحكام فقهية, مناطها الفقهي يرتكز على عدم إلجاء المسلم لقبول ما فيه منة عليه, بحيث لا يجبر على ما فيه حرج ومشقة نفسية عليه من جراء قبول ما فيه تفضل وتبرع من الغير, فمثلاً نجد أن الفقهاء قرروا الآتي:
قرروا عدم لزوم قبول الدائن سداد الأجنبي لدين المدين, مع كون الدين واجب السداد شرعا وقضاء؛ لما قد يلحق الدائن من المنة..!
وقرروا عدم لزوم قبول هبة المال من الواهب, ولو كان لاستنفاذ المال في أداء حج يقضي به فرضه؛ لما قد يلحق الموهوب له من المنة..!
وقرروا عدم لزوم قبول الماء الموهوب, ولو كان لاستعماله في وضوء؛ لأداء صلاة الفريضة, وأجازوا التيمم بالتراب؛ لما قد يلحق الموهوب له من المنة..!
وقرروا عدم قبول مال الصدقة والوصية, ولو كان محتاجاً له؛ لما قد يلحق المتصدق عليه والموصى له من المنة..!
وقرروا عدم لزوم قبول القرض الحسن, ولو كان محققاً لغرض من أغراضه المعيشية؛ لما قد يلحق المقترض من المنة..!
وقرروا عدم لزوم قبول الزوجة النفقة من الأجنبي, ولو كان الزوج معسراً؛ لما قد يلحق زوجته من المنة..!
وهكذا في أمثلة كثيرة.
ونلاحظ هنا أن الفقهاء قرروا عدم لزوم القبول, لا تحريم القبول, يعني: فإن قَبِل ذلك الآخذ ولو كان فيه منة عليه, فله ذلك, ولا ضير شرعا, المهم أن الشارع لم يلزمه بقبول ما فيه منة عليه ولو كان في قبول ذلك تحقيق واجب شرعي, مع ملاحظة أن ما قرره الفقهاء أعلاه ليس محل إجماع بين الفقهاء, ولكنه محل خلاف في بعض صوره, ولكنه يكشف عن مراعاة الأحكام الفقهية للضرر النفسي الذي قد يلحق المكلف, ولهذا خفّف عنه الشارع برفع الحرج عنه, في عديد من القضايا التي تعرض له؛ استحضاراً لهذا البعد النفسي الدقيق, وما قد يتركه من أثر على سبيل الاحتمال..! ولهذا ندرك البعد الأخلاقي والاجتماعي والتربوي والنفسي في تحريم الشارع للمنّ في الصدقة, حيث اعتبرها سبباً رئيسا في إبطال ثواب الصدقة, فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى..).
على مدى شهر عاش مشتركو «الاتصالات السعودية» فرحة ما يسمى بـ «الرسائل المجانية» حتى أصبحت الكثير من الهواتف الجوالة لا تخلد إلى الراحة حتى في الهزيع الآخر من الليل؛ بفعل هذه الرسائل المجانية..!
وهل تأخذ هذه الرسائل المجانية حكم ما تقدم من المسائل الفقهية..؟
طبعاً, لا, فهي مما لا تلحق المنة باستخدامها, لسبب بسيط جداً, وهو أن هذه الرسائل, وإن كانت مجانية جاءت في إطار شكر المشتركين وتقديرهم، إلا أنها ستسهم في تحقيق فوائد للشركة، فالاتصالات السعودية لا شك أنها درست جيداً الآثار المترتبة على مثل هذه الرسائل, وتنتظر الكثير من المكاسب, من جهات متعددة:
أولاً: من جهة أنها تسويقية, فهي أسلوب مشجع للانضمام إلى شركة الاتصالات, أو على الأقل للإبقاء في عضويتها.
ثانياً: من جهة أنها تحقق عوائد مالية, بفعل الرسائل الكثيرة التي تصل إلى غير مستخدمي هذه الشبكة, جهلاً من مرسليها.
ثالثا: من جهة أنها تنجح في تنشيط ثقافة الإرسال بعد انتهاء الشهر المجاني؛ حيث سيستمر البعض في أسلوب الضغط على زر الإرسال.
على كل حال, كشفت هذه الرسائل المجانية عما يختبئ داخل شعورنا كسعوديين من نفس مرحة, وشخصية ظريفة, واحتقان مختنق, كانت هذه الرسائل سبباً في تخفيف حدة الاحتقان, وتقوية أواصر الأخوة والقربى, وتورط بعضنا في رسائل مخجلة, وأخرى عنصرية بغيضة, فنسأل الله تعالى أن يعفو عنا, وأن يسامحنا, وأن يتجاوز عنا بمنه وكرمه.