زكاة «ضريبة» قيمة الأرض
إذا كان معدل نمو السكان مرتفعا، كما هو المعدل في المملكة، وإذا كانت الدولة تتكفل بإيصال كثير من الخدمات كالطرق والخدمات البلدية وغيرها، وإذا كان حجم السيولة في الاقتصاد عاليا، فإن أفضل استثمار لأي رجل أعمال على المدى البعيد هو شراء أرض والاحتفاظ بها أطول فترة ممكنة. والسبب أن النمو في المدن الناتج عن زيادة السكان، وزيادة النشاط الاقتصادي والخدمات البلدية المختلفة التي تقدمها الدولة، ستسهم في ارتفاع قيمة هذه الأرض بمعدلات سنوية تتجاوز معدل العائد على أي استثمار آخر، مما يجعلها استثماراً منطقياً، وفي الوقت نفسه هي لا تحمل مالكها أي تكلفة عدا متعة النظر إليها.
وهذا بالفعل ما قام به تاريخياً كثير من رجال الأعمال وأصحاب الثروات في المملكة، ومن هنا خرج مصطلح (العقار ولد بار)، فتضاعفت أسعار الأراضي داخل المدن وخارجها بشكل لا يعكس القيمة الحقيقية لتلك الأراضي. بل إن كثيرا من رجال الأعمال الذين يعملون في الصناعة والتجارة حققوا ارتفاعاً في ثرواتهم من الأصول العقارية التي يملكونها، كالأراضي التي أقيمت عليها مستودعاتهم أو مصانعهم أو منشآتهم التجارية، أكثر مما حققوه من تلك الأنشطة الصناعية والتجارية نفسها. وهذا أسهم بشكل كبير في تعميق هذا المفهوم، مما حدا بكثير من رجال الأعمال إلى التحول إلى المضاربة على العقارات وزيادة قيمتها بشكل خرافي، وهو ما كان له كثير من الآثار الاقتصادية السلبية سواءً على المجتمع أو على الاقتصاد ككل.
فمن ناحية، أسهم هذا الوضع في إحجام مالكي كثير من الأراضي في المدن عن بيع أراضيهم لأنها تحقق لهم عائداَ بالمجان ودون تحمل مخاطر تذكر. وهذا أدى إلى تقلص المعروض من الأراضي بشكل كبير مقارنة بالوفرة الحقيقية لها، وهو ما شجع كثيرا من الراغبين في الإثراء السريع على دخول مجال المضاربة العقارية، فنشط سوق السماسرة، والمساهمات، وأخيراً المطورون العقاريون. كل ذلك أدى إلى زيادة مطردة (ومصطنعة) في قيمة الأرض، وهو ما حدا بكثير من الباحثين عن السكن إلى شراء الأرض، مع عدم قدرتهم على تحمل تكلفة بنائها، والاحتفاظ بها مدة من الزمن انتظاراً لقرض الصندوق العقاري أو توافر السيولة، وهو ما قلص المعروض من الأرض بشكل كبير جداً.
هذا الأمر حقق لملاك الثروات من العقاريين مبتغاهم، وأصبح نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي واسعاً، وتركزت الثروة في فئات وأسماء معروفة لدى الجميع، دون أن يسهموا في التنمية التي منحتهم تلك الثروة (مجاناً). والسؤال هو: ما الأثر الاجتماعي لذلك؟ كيف أثر ذلك في الوضع الاقتصادي؟ هل أدى ذلك إلى قيمة اقتصادية مضافة أم إلى قيمة اقتصادية سلبية؟ ما أثر ذلك في التنمية في المدن؟ هل أسهم هذا الوضع في الفوضى والنمو العشوائي في المدن؟ هل يمكن أن يكون ذلك سبباً رئيساً للمشكلات التي تواجهها أمانات المدن مثل مشكلات الصرف الصحي، والمياه، وارتفاع منسوب المياه الجوفية، وهبوط منسوب الشوارع بعد السفلتة، وغيرها من المشكلات؟ وهل كانت أمانات المدن طرفاً في هذه المعادلة؟ ماذا عن الأحياء التي قامت على بطون الأودية، هل كان ذلك سبباً رئيساً أدى إليها؟
كل هذه أسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة، على الرغم من أنني أجزم بأن هذا السلوك الاستثماري كان سبباً رئيساً ومباشراً في كل تلك المشكلات، ومشكلات أخرى لم أطرحها. خذ مثلاً التأثير الاجتماعي، فقد أسهم هذا الأمر في انخفاض كبير في نسبة تملك المواطنين المنازل في المملكة، وبشكل لا يمكن مقارنته حتى مع الدول المجاورة لنا، ولك أن تتصور التأثير الاجتماعي لذلك وما يتبعه من أمور من أهمها ارتباط وولاء المواطن (للأرض) التي يعيش عليها، وحرصه على المحافظة على الملكية العامة. لأن الذي يملك، يكون له ارتباط وثيق بالأرض وبالتالي فهو يحرص على زيادة منفعة هذه الأرض له ولمن يعيش معه. التأثير الاقتصادي كبير جداً ويمكن أن يخصص له ملف شهر كامل من الملفات الشهرية لـ ''الاقتصادية''، فمنها على سبيل المثال لا الحصر التوسع الأفقي الكبير في المدن بسبب تركز كثير من الملكية داخل المدن في أيدي فئة محدودة من الناس، مما يبرر الانتقال إلى مناطق أخرى، وهذا أدى إلى زيادة تكلفة إيصال الخدمات إلى تلك المناطق.
هناك كثير مما يمكن مناقشته في هذا الموضوع، وما يمكن أن يساق من شواهد تاريخية وحاضرة أمامنا. كثير جداً، لكن السؤال المهم هو: ما الحل؟ كيف يمكن أن نفكك تركز ملكية الأرض وإعادة العرض منها إلى وضعه الطبيعي. اقتصادياً نسمي سلوك عقاريينا بالبحث عن الريع Rent Seeking وهو كل سلوك يؤدي إلى ربح لا يعكسه نشاط اقتصادي إنتاجي فعلي، ولكنه ناتج عن التحكم في قوى العرض، وما يضخم هذا الريع المضاربة، وهنا يجب أن نبحث عما يحد من هذه المضاربة. الإجابة عن ذلك تكمن في جباية الزكاة على الأراضي، ويسميها الغرب بالضريبة، وللمفارقة أنه في هذا المجال بالذات هناك تطابق كبير في الأثر الاقتصادي بين الزكاة والضريبة. وسأترك الحديث عن الجانب الاقتصادي للزكاة (الضريبة) على الأراضي لمقال الأسبوع المقبل ـ إن شاء الله.