التعايش مع الاضطرابات

التعايش مع الاضطرابات

لم تتنفس الصناعة النفطية بارتياح يوم الإثنين الماضي عند الإعلان عن إطلاق آخر ثلاثة من الرهائن الذين كانت تحتجزهم بعض الجماعات المسلحة في منطقة دلتا النيجر. فشركة رويال دتش شل، كبرى الشركات العاملة هناك، قالت إنها لن تبدأ العمل ما لم تحصل على ضمانات بحماية العاملين لديها. المهم لدى الصناعة النفطية ضمان تدفق الإمدادات، وهو ما لا يبدو مضمونا رغم تصريح بعض قادة الجماعات المسلحة أنهم لن يستهدفوا العاملين لأخذهم رهائن كما كان يحدث، وإنما رفعت من سقف أهدافها، التي أصبح على رأسها تركيع الصناعة النفطية النيجيرية ودفع الشركات الأجنبية إلى المغادرة أو تقليص نشاطها.
الرئيس النيجيري أوليسيجون أوباسانجو أعلن الأسبوع الماضي عن حزمة قرارات سياسية واقتصادية لإصلاح الأحوال في منطقة دلتا النيجر، التي تشكل مفصلا مهما في الصناعة النفطية النيجيرية، واحتلت هذه الإجراءات جزءا من مباحثاته مع الرئيس الأمريكي جورج بوش، الأمر الذي يشير إلى أهمية ما يجري في نيجيريا على المستوى الدولي.
وهذا مربط الفرس، فنيجيريا تعتبر واحدة من الأماكن التي يجري التركيز الأمريكي عليها تحديدا لتمثل خيارا آخر للولايات المتحدة بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط بتقلباتها السياسية المتأثرة بتطورات الصراع العربي - الإسرائيلي، ثم دخول التهديدات الإرهابية المحلية على الخط عنصر إقلاق واضطراب جديد.
ومع أن نيجيريا أكبر منتج للنفط في إفريقيا، إلا أن كل منطقة غرب إفريقيا خاصة خليج غينيا أصبحت تمثل بالنسبة إلى واشنطن منطقة من الأهمية بمكان لدرجة أن البعض ينادي باعتبارها منطقة ذات أولوية عسكرية لضمان الأمن ومن ثم تدفق الإمدادات النفطية منها. إحدى مزاياها أنها تطل على ساحل المحيط الأطلسي، وبالتالي ليس بينها وبين الساحل الأمريكي إلا الماء، أي أنها ليست معرضة لنسف خط أنابيب أو المرور عبر مضيق يمكن إغلاقه. لكن المفارقة أن المتاعب تمور هناك في الداخل وقبل الوصول إلى موانئ التحميل.
قبل فترة قام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن بإعداد دراسة عن الأبعاد الجيوبوليتيكية للصناعة النفطية وأمنها وتوصل إلى قناعة أنه ليس هناك أمن مطلق يمكن تحقيقه، وأن على الصناعة أن تتعايش مع حقيقة استمرار التهديدات التي قد يصدق بعضها ولا يصدق الآخر. وأنه إذا كان هناك خوف على الوضع الأمني في بعض الدول المنتجة في منطقة الخليج، فإن الدول المنتجة الأخرى في بقية أنحاء العالم ليست بأحسن حالا.
وتمثل نيجيريا مثالا ساطعا من ناحية، كما أن أوروبا لا تزال تبحث عن صيغة تقنعها بالنوم على حرير الاطمئنان الذي يقدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وذلك إثر العملية التي قامت بها شركة غازبروم بوقف صادرات الغاز إلى أوكرانيا إثر حدوث نزاع بين الطرفين.
وعمليا فإن الصناعة النفطية تمكنت من تحقيق ذلك التعايش من باب الأمر الواقع، والسجل التاريخي خير شاهد. ففي حرب السويس المعروفة بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 فقدت السوق نحو مليون برميل يوميا لفترة ثلاثة أشهر، وفي حرب 1967 الشهيرة ارتفع حجم الفقد إلى مليوني برميل لفترة شهرين، ثم جاءت حرب 1973 والحظر النفطي الأشهر حيث فقدت السوق 2.6 مليون برميل يوميا لفترة ستة أشهر، ثم الثورة الإيرانية التي شهدت اختفاء 3.5 مليون برميل، ثم الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980 وحدوث انقطاع في الإمدادات بحجم بلغ ثلاثة ملايين برميل، ثم جاء الغزو العراقي للكويت وصدور قرارات من الأمم المتحدة بالحظر على النفطين العراقي والكويتي، الأمر الذي نجم عنه توقف 4.3 مليون برميل.
وهذا العقد شهد الاضطرابات السياسية في فنزويلا وفقدان 2.1 مليون برميل يوميا لفترة ثلاثة أشهر، ثم اضطرابات نيجيريا الأولى قبل ثلاث سنوات التي فقدت السوق بموجبها 300 ألف برميل يوميا لفترة ستة أشهر، ثم الحرب الأمريكية على العراق وتراجع إنتاج الأخير بنحو المليون برميل ولايزال، ثم الاضطرابات النيجيرية الأخيرة التي فقدت السوق بموجبها ولا تزال نحو 400 ألف برميل يوميا.
وهكذا خلال نصف قرن من الزمان تتالى انقطاع الإمدادات عن السوق لمختلف الأسباب، لكن العامل الرئيسي ظل وسيظل دائما إلى أي مدى توجد إمكانيات إنتاجية قادرة على سد الفجوة؟ وإلى أي مدى تشعر السوق بالاطمئنان. فعندما غزت العراق الكويت واختفت 4.3 مليون برميل يوميا عن السوق ارتفعت الأسعار لفترة قصيرة بين 16.5 إلى 33 دولارا للبرميل، وذلك لأن السوق كانت متخمة، بينما ارتفاع الأسعار أربعة أضعاف إبان الحظر النفطي في 1973 يعود إلى الزيادة الكبيرة في الطلب. أما فترة الثورة الإيرانية فتقف شاهدا على أن حالة الاضطراب كافية وحدها لرفع الأسعار حتى وإذا كانت الإمدادات متوافرة.

الأكثر قراءة