انتهاء أسوأ فترات الركود الاقتصادي.. وانتعاش تدريجي للطلب على النفط
تخضع أسعار النفط لعوامل متشابكة وهي في تغير وتطور مستمر، منها ما هو متوقع ومنها ما هو غير ذلك، فالعلاقة بين سعر النفط والطلب معقدة جداً وتتفاعل مع عناصر بعضها يستحيل التنبؤ بحدوثه، فالعوامل الأساسية المؤثرة في تقديرات الطلب المستقبلي كثيرة ومتشابكة وبالتالي في أسعار النفط. ولتوضيح ذلك فإن جميع الدراسات التي أجريت من قِبل شركات النفط والبنوك والخبراء في السنوات الماضية لم تضع أي تصور أو سيناريوهات لوصول الأسعار إلى مستوياتها في منتصف عام 2008، أي 148 دولاراً للبرميل.
وحتى بعد أن وصلت لتلك المستويات غير المسبوقة كانت التقديرات السائدة آنذاك أن مستويات الطلب سوف تستمر في التصاعد لتضغط على الأسعار لمستويات 200 دولار بنهاية 2008، ولكن بعكس التوقعات انهارت الأسعار عن تلك المستويات لتصل إلى مستويات 33 دولاراً للبرميل. ولعلنا نعتبر من ذلك ونأخذ الحيطة في هذا الشأن وهو أن الجميع كان مخطئا بشأن انتكاسة الأسعار وإمكانية صولها إلى مستويات 30 دولاراَ بسبب الأزمة المالية العالمية المفاجئة وما ارتبط بها من هبوط حاد في الطلب على النفط. إضافة إلى أن بعض العوامل الأخرى يستحيل التنبؤ بحدوثها مثل الأحوال المناخية والكوارث الطبيعية والأعاصير التي تحدث على وجه الخصوص في مناطق إنتاج وتكرير النفط.
وبالرغم من الصعوبة في تحديد الأسعار المتوقعة لعام 2010، إلا أن إبراز أهم العوامل المتعلقة بتأثير سعر النفط على الطلب مع إيضاح تأثير كل منها وبشكل مختصر سيلقي الضوء على اتجاهات الأسعار والمستويات المتوقعة لها مستقبلا. وفي هذا المقال سنحاول إلقاء الضوء على آفاق أسعار النفط وتوقعات مستويات الطلب العالمي عليه في السنة المقبلة.
النفط والاقتصاد الدولي والمحلي
لا يزال النفط يمثل المحرك الرئيس للاقتصاد العالمي والعصب الصناعي لدول العالم قاطبة فهو من أهم المعايير الرئيسة التي لها تأثير عالمي سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية بل هو بحق أهم الدعامات التي ترتكز عليها الحضارة الإنسانية، ومن بين جميع مصادر الطاقة الأخرى يعد النفط في الوقت الحاضر من أكثر السلع الاستراتيجية تداولاً في العالم وبالتالي فإن النمو الاقتصادي العالمي المرتقب في عام 2010 مرتبط ارتباطاً ملازماً بنمو الطلب عليه وبالتالي أسعاره التي تعد من جل اهتمامات المملكة التي تعتمد بشكل مباشر على الإيرادات النفطية من كمية الإنتاج التي تعتمد بدورها على عوامل محورية تحدد أسعار النفط وهي الطلب العالمي على النفط وحالة الاقتصاد الدولي وحجم الإنتاج والحصص التقديرية لمنظمة أوبك، ولقد كان التراجع في الطلب على النفط في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية نتج عنه تدن في أسعار النفط إلى مستويات قد لا تساعد على تطوير صناعة النفط في ظل أوضاع الأزمة المالية وصعوبة إجراءات التمويل واحتمال تعطيل الإقراض للشركات النفطية نتيجة ضعف السيولة لدى بعض البنوك العالمية بسبب الأزمة العالمية.
الانتعاش الاقتصادي العالمي المرتقب
يبقى النفط أهم سلعة استراتيجية عالمية وهو المحرك الأساسي في الاقتصاد الدولي، حيث إن معظم دول العالم حالياً تعتمد على النفط في مزيج الطاقة المستهلك في اقتصادياتها الكلية وبالتالي ينخفض الطلب عليه نسبياً مع انخفاض معدلات النمو الإجمالي، ويرتفع الطلب عليه نسبياً مع ارتفاع معدلات النمو الإجمالي، ولقد شكلت الأزمة المالية العالمية وما تبعها من الركود انخفاضا على الطلب للنفط وبالتالي في هبوط أسعاره، ومن المتوقع أن عام 2010 سيمثل انتهاء أسوأ فترات الركود الاقتصادي ويتلازم مع ذلك انتعاش الطلب تدريجيا. وبنظرة عاجلة على الأسواق النفطية خلال الأزمة العالمية فلقد قل الطلب على النفط وهوت أسعار النفط من مستوى قياسي قرب 150 دولارا للبرميل في منتصف عام 2008 إلى أقل من 33 دولارا ً للبرميل خلال ذروة الأزمة المالية أي في كانون الأول (ديسمبر)، ثم بدأت الأسعار في التحسن ووصلت إلى ضعف مستواها أي فوق 60 دولارا في الأشهر الستة التي أعقبت ذروة الأزمة واستقر خلال الربع الأخير من عام 2009 عند مستويات 70 دولاراً للبرميل، ومن الواضح والحال كذلك أن ارتفاع سعر النفط في النصف الأخير من عام 2009م يرجع إلى التفاؤل بالنمو الاقتصادي الدولي وأنه دليل على انتهاء أسوأ فترات الركود الاقتصادي واستعادة السوق توازنها وانتعاش الطلب على النفط تدريجيا وبالتالي صعود أسعار النفط متخذة مسارا موازيا للنمو الاقتصادي.
وبما أن النفط لا يزال هو المحرك الأساسي لتعافي الاقتصادي الدولي المرتقب خلال عام 2010م، فلا شك أن الطلب عليه سيرتفع في فترة الانتعاش الاقتصادي العالمي المرتقبة، ولكن بالرغم من التنبؤ بتحسن الاقتصاد العالمي إلا أن تشعب العوامل الأخرى المؤثرة بين الإنتاج ومستويات الاستهلاك وبالتالي سعر النفط ومستويات تحسن الاقتصاد العالمي تجعل من العلاقة بينهما على درجة عالية من التعقيد والضبابية لوضع أي تصور لمستوى الأسعار المستقبلية المتأثرة بمستويات الاستهلاك، وبحسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة فإن الدول لأعضاء في "أوبك" (11 عضوا باستثناء العراق غير الخاضع لنظام الحصص) أنتجت 26 مليوناً 800 ألف برميل يوميا في كانون الأول (ديسمبر)، واستقرت الأسعار خلال الأشهر الستة الأخيرة من عام 2009 عند مستويات 70 دولاراً للبرميل. وبشكل عام فإن عام 2010 سيكون أفضل من 2009، الذي شهد تراجعا في الاستهلاك بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي.
وتأكيداً على أن تحسن التوقعات الاقتصادية سيعزز استهلاك النفط، صرحت "أوبك" في ذلك بأن الطلب العالمي على الخام سيرتفع بواقع 700 ألف برميل يوميا في عام 2010م إلى 84.93 مليون برميل يوميا. ولقد جاء في تصريحات بعض وزراء النفط الأعضاء في (أوبك) أن السعر المناسب للمنتجين والمستهلكين هو ما بين 70 و80 دولاراً للبرميل، كون ذلك السعر يفي بالتزامات الدول المنتجة تجاه الاستثمارات النفطية من دون التأثير في الاقتصاد العالمي.
القوة الشرائية للدولار
يعتبر الدولار عبر السنين القاعدة الصلبة للازدهار الاقتصادي في الولايات المتحدة ومصدر الثقة العالمية العالية في الاقتصاد الأمريكي. هذان العاملان المهمان هما السر وراء قوة الدولار وتبوئه أهم مركز عالمي بين العملات الدولية. ويعتمد الدولار بطريقة غير مباشرة على الثقة الدولية بالاقتصاد الأمريكي، التي بدورها، أي هذه الثقة العالمية، جعلت من الدولار العملة المستخدمة في التجارة الدولية وحتى في المعاملات الداخلية لكثير من البلدان، وذلك من جراء ربط صرف العملة الداخلية لكثير من البلدان بالدولار. وإكمالاً لدائرة قوة ومركزية الدولار التراكمية، فالدولار الذي تستخدمه أمريكا والدول الأخرى كعملة في التجارة الدولية، تتم في ضوئه إعادة تحويل المنتجات والسلع والثروات إلى احتياطيات مالية بالدولار حجمها يتجاوز ثمانية تريليونات دولار، وموظفة بشكل كبير في استثمارات في الاقتصاد الأمريكي وأسواقه الداخلية في مستندات الخزانة الأمريكية وغيرها من المدّخرات بالدولار كالأسهم الأمريكية والعقارات وما شابهه. من ذلك نرى أن اعتماد الدولار في التجارة والمعاملات الدولية يحقق لأمريكا دور الخزانة العالمية، التي تطبع الدولارات بغطاء لا تملكه من احتياطيات استثمارية أجنبية، ولكن ما زال يحظى بالقبول العالمي. وبهذه الأسباب، أي اعتماد الدولار في التعاملات الدولية، وقبول العالم بالدولار الأمريكي كعملة رئيسة في معاملاتها التجارية، فإن أكثر من ثلثي مبادلات العملات العالمية يتم حالياً عبر الدولار، ويتحكم فيها الدولار، الذي يمثل ثلثي الاحتياطيات المالية العالمية. مما يجعل من الولايات المتحدة البنك المركزي الدولي، وشيكاته هي الدولار التي تتحكم في سعر صرفها الولايات المتحدة. وفي ضوء تدني سعر صرف الدولار والأزمات المالية المتعاقبة فالتجارة الدولية في بضائع مثل النفط والمعادن والمحاصيل تتم بالدولار الذي لا يعتمد على أي غطاء أو احتياطي، بل إن اعتماد الدولار في التجارة الدولية وبالأخص التعاملات النفطية يحقق لأمريكا ودولارها تغطية احتياطية من نفط دول الأوبك التي لا تملكه الحكومة الأمريكية ويحقق لها دور الخزانة العالمية أو البنك المركزي للعالم، ونظراً لأن الدولار هو العملة العالمية لتسعير النفط فإن استمرار تراجع الدولار في ظل وجود أزمة مالية عالمية كان مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن القوة الشرائية للدولار ضعفت بشكل كبير فاقت مستويات التضخم، ولذلك تأثير مباشر في أسعار النفط، فالأزمات الاقتصادية المتلاحقة على الولايات المتحدة ستخلف دولاراً ضعيفاً ويمثل مخاطرة كبيرة تنعكس على أسعار النفط نظراً لأن الدولار الأمريكي يستخدم في المبيعات الدولية للنفط والمنتجات المكررة وهذا يعني أن أسعار النفط لها وضع خاص من ناحية تقلبات سعر صرف الدولار الذي يتبعه فرق في القوة الشرائية لخامات النفط المستوردة بين الدول وبالتالي تأثير الأسعار عليها.
إن التراجع الحاد للدولار وضعفه يمثل حصيلة من المخاطر لأسعار النفط على الدول المنتجة للنفط، ولكنه في الوقت نفسه سيسهم في رفع الاستهلاك على النفط من الدول الأخرى كالهند والصين وأوروبا واليابان فعلى سبيل المثال، في أوضاع السوق الحالية وبسبب سعر صرف الدولار المتدني فإن المستهلك الأوروبي أو الياباني مثلاً يدفع للمنتجات النفطية سعرا أقل مما يدفعه المستهلك في أمريكا أو الدول الأخرى المرتبطة عملتها بالدولار نتيجة لارتفاع عملة الين أو اليورو مقابل الدولار. وهو ما سيؤدي على الأرجح إلى استمرار تعرّض الدولار الأمريكي للضغوط، مما يؤدي إلى جعله أقل سعرا في نظر المستثمرين الأجانب الراغبين في شراء السلع المقوّمة بالدولار. وسعر النفط يدعمه تراجع الدولار المنخفض فترتفع أسعار السلع المقومة بالدولار مثل النفط عندما يتراجع سعر العملة الأمريكية إذ إنها تصبح أرخص على المشترين بعملات أخرى.
كمية المخزونات التجارية وتأثيرها في الأسعار
إن كمية المخزونات التجارية من النفط الخام لها تأثير مباشر في أسعار النفط لعام 2010، ولكن في ظل بيانات عن ضمور بعض من حقول النفط في الخليج وفنزويلا وروسيا وإندونيسيا وبحر الشمال، وكذلك ارتفاع تكاليف الاستثمار في موارد جديدة للطاقة وازدياد مطرد في تكلفة إنتاج النفط، فالتوقعات تجمع على أن يرتفع الطلب على النفط 1.3 مليون برميل يوميا عام 2010م ليصل إلى 85.9 مليون برميل يوميا، ولكن في المقابل توجد مخزونات وفيرة حسب مصادر إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، حيث إن مخزونات الولايات المتحدة التجارية من النفط الخام زادت مليون برميل إلى ما مجموعه 337.8 مليون برميل في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر). كما أن مخزونات الخام والبنزين الأمريكية زادت بشكل كبير لتعزز المخزونات الوفيرة بالفعل في أكبر مستهلك للطاقة في العالم. وبالتالي ربما ستخفف من ضغوط الأسعار وتقيد نموها في بداية عام 2010م، ولكن الطلب المطرد المرتقب على النفط في فترة الانتعاش الاقتصادي العالمي ستكون كافية لاستنفاد المخزونات النفطية العالمية الضخمة، وبالتالي فإن أسعار النفط ربما تبدأ في الارتفاع بمجرد تعافي الاقتصاد العالمي.
توقعات البنوك والمؤسسات المالية والحكومية
تحذر وكالة الطاقة الدولية من صعود أسعار النفط وبقائها فوق مستوى 70 دولاراً للبرميل، لأن ذلك قد يتسبب في إبطاء وخنق الانتعاش الاقتصادي ويحول دون انتعاش الاقتصاد العالمي من حالة الركود التي يمر بها. وفي تقرير حول الشرق الأوسط نشر حديثاً توقع أن يصل سعر برميل النفط إلى 63 دولارا عام 2010م مقابل معدل 55.5 دولار عام 2009 في المعدل. أما البنك الدولي فجاء تقريره السنوي حول التطورات والآفاق الاقتصادية في المنطقة بأن هذا السعر كاف لتجنب أزمة كبرى في الدول المنتجة للنفط، لكنه أدنى بكثير من الأسعار التي سجلت خلال الطفرة النفطية عام 2008" والتي تخطت 147 دولارا. وتوقع كذلك أن يبلغ حجم الطلب العالمي على النفط 85.1 مليون برميل في اليوم عام 2010م بزيادة 1.5 في المائة على عام 2009 (84.4 مليون برميل في اليوم) ولكن أقل من مستوى الطلب عام 2008 (86.3 مليون برميل في اليوم). وروسيا تتوقع على لسان وزير المالية الروسي انخفاض أسعار النفط إلى 60 دولارا للبرميل في غضون عامين إذا لم يكن هناك انخفاضات حادة في سعر صرف الدولار الأمريكي، ويعزو ذلك إلى "ضعف الدولار" الذي رفع من سعر النفط، ولكنه أكد أن سعر النفط قد يستقر عند المستوى الحالي بين 70 و80 دولارا للبرميل خلال عام 2010م، أو من المحتمل أن يرتفع على المدى القريب، إلا أنه سينخفض بعد هذا الارتفاع خلال عامين.
استراتيجي ومختص في شؤون الطاقة