مخالفات الأنظمة الصحية .. ضوابط ومعايير موحدة

تتفق جميع التشريعات والأنظمة في جميع دول العالم على اعتبار المسؤولية المهنية للأطباء والصيادلة ونحوهم على الالتزام ببذل العناية ولكنه التزام مهني في غاية الدقة أيضا، ويتطلب بذل العناية القصوى لأن محل تنفيذ الالتزام هو جسد إنسان يحتاج إلى التشخيص والعلاج والرعاية اللاحقة، ومن هنا يجب أن نتصور أهمية وجود تنظيم دقيق يحدد المخالفات الصحية ويضع تعريفا واضحا لها لتفادي تضارب المفاهيم بين ما يعتبر مخالفة أو يعتبر اجتهادا مقبولا في مجال الخدمات الصحية، وقد سارت لجان المخالفات الصحية في المملكة على الاجتهاد في كل حالة على حدة دون وجود قواعد أو مبادئ مشتركة يمكن اعتبارها ملزمة لها في الحالات الأخرى المماثلة.

وقد رأت وزارة الصحة ممثلة في معالي الوزير أن يتم الانتقال إلى مرحلة جديدة لمعالجة مخالفات أحكام الأنظمة الصحية في المملكة، وذلك بوضع ضوابط ومعايير لتلك المخالفات، وقد صدرت تلك الضوابط فعلا بقرار معالي وزير الصحة, وسنقف عند أهم ما يمكن رصده من أمور ومسائل في هذه الضوابط, وذلك على النحو التالي:

#2#

1- تكون هذه الضوابط ملزمة للجان المخالفات الصحية واسترشادية أيضا في بعض الحالات غير المتكررة أو الجديدة, ولتؤدي غرضا مهما وهو توحيد مقدار العقوبات ومبلغ الغرامات وغيرها من العقوبات التي يجب أن تكون غير متفاوتة تفاوتا بيناً.

2- تقوم هذه الضوابط بدور الأساس النظامي للقرارات حيث يتم الاستناد إليها في حيثيات تلك القرارات الصادرة بإيقاع العقوبات وهذا يضمن لها إلى حد كبير التأسيس القانوني السليم.

3- ومن ناحية أخرى فإن من المعلوم أن قرارات لجان المخالفات الصحية هي قرارات إدارية تخضع للتظلم منها أمام المحاكم الإدارية ممثلة في ديوان المظالم في جميع مدن المملكة وستكون بمنأى عن النقض والإلغاء متى توافر لها الإسناد الصحيح والاسترشاد بها بحسب كل حالة وملابساتها.

4- ولأهمية الظروف والملابسات المشددة والمخففة فقد تضمنت تلك الضوابط تشديد العقوبة أو تخفيفها بحسب ظروف الإهمال والتعمد والتكرار ونحوها من الظروف المؤثرة في مقدار العقوبة.

ورغم أهمية التباين في صياغة قوانين المخالفات الصحية من دولة لأخرى ومنها العامل الديني والنهج السياسي والواقع الاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى الموروث الحضاري, إلا أنها تتفق على وضع الثقة كاملة في الطواقم الطبية والصحية ومساعديهم وعدم تقييدهم بما يمنعهم من أداء دورهم في تشخيص الحالات وعلاجها، ولكن دون تساهل في ضرورة توخي الدقة والحذر والاستعانة بأحدث وسائل التشخيص والعلاج، كما أن أي جهة تشريعية أو رقابية تصدر أنظمة أو لوائح لضبط الخدمات الصحية، فإنها تضع في الاعتبار أن شفاء المرضى غاية مشتركة لدى تلك الجهات وكذلك المستشفيات والعيادات والمرضى وذويهم، ولكن وجود المخالفات ليس مستحيلا بل هو جزء من واقع الحياة اليومية وغالبا تكون نتيجة اجتهاد خاطئ، لذا فإن جميع القوانين تؤكد على أن يكون الطبيب مؤهلا من الناحيتين الأكاديمية والتجريبية كي يمارس مهنة الطب، كما أنه يجب أن يتبع النظريات العلمية السائدة في التشخيص والعلاج فليس هناك مجال للتجريب والاجتهاد الشخصي والابتكار الذي يتبعه بعض الأطباء وهو غير مقبول علميا، فهو اجتهاد خاطئ يستوجب الإيقاف أو الغرامة بحسب حجم المخالفة وضررها على المريض, وهذا ينطبق أيضا على طب الأسنان والصيادلة لأن النظام واحد والمخالفات متقاربة جدا في طبيعتها والحكم عليها.

إن من بين الضوابط التي تحكم تحديد عقوبة المخالفة وتفرض التشدد فيها اقتران التشخيص والعلاج بإجراء جراحي إذا نتج عن المخالفة ضرر مادي شديد أو معنوي أو عاهة مستديمة، وكذلك تكرار الخطأ أو إذا نتج عن الخطأ الطبي مضاعفات خطيرة أو تكلف المريض في علاجه مبالغ طائلة، كما أن من بين تلك الضوابط التي تحكم المخالفات وتعتبر مشددة وجود اتجار بالأعضاء البشرية أو القيام بزراعة عضو بشري تم الحصول عليه عن طريق المتاجرة، كما أن المتاجرة في عينات المستحضرات الصيدلانية والعشبية مخالفة تفرض عقوبة مشددة أيضا.

وعكس تلك الظروف المشددة هناك ظروف مخففة للعقاب مثل عدم جسامة المخالفة أو حدوثها لأول مرة مع الطبيب المخالف أو عدم وجود عملية جراحية, وعدم تكلف المريض مصروفات علاج باهظة, وكذلك عدم وجود مضاعفات أو عدم وجود ضرر مادي أو معنوي جسيم أو كون ذلك الضرر يسيرا لا يؤثر في صحة المريض ومستقبله.

لقد أحسنت وزارة الصحة أن وضعت تلك الضوابط وألزمت بها لجان المخالفات الصحية وجعلتها قانونا ملزما واسترشاديا في الحالات المماثلة للمنصوص عليها، فالقضاء في كل دول العالم يعامل الأخطاء والمخالفات الصحية بالصرامة الكافية لتحقيق المصلحة العامة في حث الأطباء على الدقة، وأيضا القضاء والقانون يحمي الأطباء من المساءلة القضائية في الحالات المستعصية أو النتائج المحكومة بالقضاء والقدر، وفي الوقت نفسه يحمي المجتمع من تحول الطب إلى تجارة بحتة يغيب عنها الوازع الإنساني والديني والأخلاقي أو تحوله إلى عمل مادي لا يخضع لأية ضوابط أو مبادئ عادلة تحمي حقوق جميع الأطراف من أطباء ومرضى وغيرهم.

إن هناك أخطاء طبية ومخالفات مؤسفة وتمت معالجتها في الماضي بعقوبات لا تتناسب مع حجم تلك المخالفات وقد تزايدت حتى أوشكت أن تتحول إلى ظاهرة تمس مصداقية بعض المستشفيات والعيادات, ولم يكن هناك مجال لتصحيحها لأن الضرر قد وقع وأصبحت نتيجته جزءاً من حياة المريض وأسرته، ولذا فإن المؤمل أن تكون العقوبات رادعة حماية لمهنة الطب والخدمات الصحية والمصلحة العامة, وبالفعل فالمؤشرات تعطي الدلائل على أن وزارة الصحة وهيئة التخصصات الطبية تسيران في الاتجاه الصحيح لكشف أصحاب الشهادات المزيفة أو غير المعترف بها وتنظيف القطاعات الصحية الحكومية والخاصة من الدخلاء على هذه المهنة الإنسانية.

إن مهن الطب البشري والصيدلة وطب الأسنان أكثر المهن تعرضا لولوج أشخاص دخلاء عليها، وذلك بما يمكن تسميته انتحالا للمهنة وهو السبب الرئيس الذي يفسر لنا تزايد حالات المخالفات والأخطاء الطبية في مستشفياتنا وعياداتنا الحكومية والخاصة، ولذا فإن ما تم من كشف لكثير من تلك الحالات هو حماية للمجتمع من أخطاء ومخالفات أخرى جديدة, فالوقاية دائما خير من العلاج.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي