منح الأراضي والموقف الفقهي
قبل مئات السنين قرر أهل العلم أن الإقطاع أو ما يسمى اليوم بالمنح, يصح من الحاكم بشرط المصلحة, وذهب بعضهم إلى جواز الإقطاع, ولكن ليس على سبيل التمليك, بل على سبيل الإرفاق - أي لمدة معينة - يرتفق به صاحب الإقطاع, ثم يعيده متى انتهت مصلحته منه, كإقطاع ولي الأمر لمؤسسة أو لشركة وطنية قطعة كبيرة من الأرض فترة معينة لتصنيع الأسمنت مثلا, أو للتنقيب عن معادن معينة, من أجل دعمها وتشجيع إنتاجها محليا, وهكذا.. فإن كان الإرفاق لإحياء الأرض الميتة, فأحياها الممنوحة له, فإنها تعود ملكاً له بالإحياء, وذهب فريق ثالث من أهل العلم إلى منع قطائع معينة, وهي ما كان مشكوكاً في مصدرها, مما يمكن أن يكون من أملاك مغصوبة, كما صرح بذلك الإمام أحمد ــ رحمه الله.
إذن فمن أهل العلم من أجاز إقطاع التمليك, ولكن بشرط المصلحة, كما هو الصحيح من مذهب الحنابلة, وهو قيدٌ مهم جدا, وفي الواقع أن الإقطاع أو منح الأراضي له أثره الإيجابي متى ما كان محققاً للمصلحة العامة, ومن ذلك توزيع الأراضي لعامة الناس لتكون مقراً مجانياً لهم, يبنون عليها وحدة أو وحدات سكنية, كما قد يكون للإقطاع أثره السلبي لو كان بأسلوب يخالف المصلحة العامة, حيث يسمح الإقطاع لمجرد تمليك الأراضي مثلاً, واتخاذها فرصة للمغالاة بها, لا من أجل بنائها واستغلالها بما يحقق مصلحة السكن للأسرة, أو بما يحقق الصالح العام للمسلمين بإحيائها مثلا, وبناء اقتصاد الدولة الإسلامية من خلال زراعتها وتشغيلها عبر أفراد المجتمع, أو من خلال إنشاء مصانع عليها, خلافاً للإقطاع الانتقائي, الذي يمهِّد لاستعلاء الغني على الفقير, كما حصل في بعض الدول الأوروبية في أزمان غابرة, وكما يحصل اليوم في بعض بلاد المسلمين وللأسف, ولهذا فصِّل الفقهاء القول في هذه المسألة؛ من أجل ألا يكون الإقطاع ناتجاً عن مصالح شخصية, ولئلا يسهم في الإضرار بمصلحة العامة, إما باستغلال الإقطاع في المتاجرة بالأراضي, والمغالاة بها, وإما بالإبقاء عليها كأراض بور في خاصرة الأحياء السكنية, أو بين الأراضي الزراعية.. مما يساعد على احتكار هذه الأراضي وارتفاع أسعارها, أو بقائها هامدة مدة طويلة من الزمن دون استغلال, خلافاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له), وهذا الحديث يكشف عن مقصد الشارع من وراء هذا الحكم التشريعي أو القضائي - على خلاف معروف - حيث يلهب همم الأفراد نحو استغلال الأراضي بالزراعة, بما يعود أثره على المصلحة العامة للمسلمين, لا العكس.
لقد كان تشجيع النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ على إحياء الأراضي الزراعية, مثلاً حياً لتحريك اقتصاد البلاد عبر الاستثمار الحقيقي بالزراعة, وتشغيل الأيدي العاملة, وهو هدي نبوي يعكس حرص النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ على نقل هذه الثقافة لمجتمعه وللمجتمعات اللاحقة, ولا شك أن منح الأراضي من أجل تخفيف العبء على المواطن في بناء المسكن, يمثل مصلحة عامة للمجتمع ككل, وهو ما نطمح إلى أن توسع الأمانة والبلديات من دائرة المستفيدين منه ليشمل كل أفراد المجتمع بلا استثناء, وفي أراض قريبة من العمران, لتكون صالحة لسكنى الآدميين.