عمل جاد لترميم النظام المالي العالمي
تواجه المصارف العالمية وكبار التنفيذيين العاملين فيها أكثر التحديات في تاريخهم. فبعد أن تمتعوا بقرابة العقد من الحرية الكاملة التي منحتها لهم القوانين والتشريعات الحكومية، باتوا يواجهون اليوم تحدياً عصيباً بسبب ما خلفته تلك الحرية من سوء استغلال من قبل بعض أولئك التنفيذيين لزيادة المخاطر التي تحملتها تلك المصارف بهدف زيادة دخلهم من المكافآت التي بلغت أرقاماً فلكية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً. هذا الأمر ولّد ضغطاً سياسياً بهدف الحد من تلك المكافآت، وكف يد المصارف في كثير من المجالات التي تعمل بها لدورها الرئيس في الأزمة المالية العالمية.
فالمصارف كانت سبباً رئيسياً في نشوء أزمة الرهن العقاري من خلال عملية تسنيد الديون وتوجيه قروض لضعيفي الملاءة الائتمانية، والعمل على تشجيعهم للحصول على تلك القروض على الرغم من معرفتهم باحتمالات كبيرة لعجز أولئك لسداد مترتبات تلك القروض. بالطبع كان الهدف قصير المدى بزيادة ربحية البنوك على المدى القصير ما أدى في الوقت نفسه إلى زيادة مكافآت المديرين التنفيذيين وأصبحت على أثره منكشفة على مخاطر ائتمانية عالية.
كان السبب وراء هذا التوجه هو المعارضة الشديدة التي واجهت قانون قلاس ستيجال الذي أقر بعد أزمة الكساد الكبير، وأدى إلى فصل عمليات الاستثمار عن عمليات المصارف، وذلك بهدف عزل عملية تحمُّل المخاطر الكبيرة التي تواجهها البنوك الاستثمارية عن المصارف التي قد تواجه خطر جري المودعين، وهو ما أسهم في الحد من إفلاسات البنوك التجارية بشكل كبير. بالطبع هذا ترافق مع تأسيس المؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع والتي كانت موجهة لتأمين ودائع المتعاملين مع البنوك التجارية، وهو أحد الأسباب التي أدت إلى إقرار “قلاس ستيجال”، لكيلا تضمن أموال دافعي الضرائب مخاطر المستثمرين ما يؤدي إلى مشكلة الخطر الأخلاقي Moral Hazard.
في نهاية التسعينيات الميلادية قامت البنوك الكبرى بحملة معارضة كبرى أدت إلى إنهاء العمل بقانون قلاس ستيجال، وهو ما أدى إلى موجة اندماجات مصرفية كبيرة بين البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية وزاد معها حجم المخاطر التي يمكن أن تتحملها تلك البنوك. أحد العوامل التي كانت مبرراً لإنهاء “قلاس ستيجال” أن تلك المصارف تستطيع دائماً تحويل تلك المخاطر إلى مؤسسات أخرى ومستثمرين يستطيعون بالفعل تحملها من خلال عملية التسنيد، وهو ما أحدث ثورة كبيرة في هذا المجال سواءً في المجال العلمي الأكاديمي المتعلق بها أو المجال العملي، فأسس كثير من المؤسسات الاستشارية الخاصة التي تعمل في هذا المجال. هذه العدوى انتقلت بالطبع من خلال تيار العولمة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدول الأوروبية التي تبنت منهجاً مماثلاً تعمل فيها البنوك في المجال المصرفي والاستثماري.
الآن كما تخضع البنوك للتحقيق في كل أوجه الرقابة والتنظيم المتعلقة بها وبكبار مديريها التنفيذيين، فإن هناك مراجعة لقانون قلاس ستيجال وفيما إذا كانت هناك حاجة فعلية إلى العودة إليه من جديد. عملية التنظيم خرجت الآن من يد الدول إلى يد مجلس الاستقرار المالي الذي يعمل على إحداث تشريعات تحد من الخطر الأخلاقي الذي يمثل التحدي الأكبر الذي يواجه النظام المصرفي، وعلى الدول الالتزام بما يتم الاتفاق عليه في إطار المجلس. بدأت أعمال المجلس تؤتي ثمارها من خلال قيام بريطانيا ولأول مرة بفرض ضريبة على مكافآت المديرين التنفيذيين تعادل 50 في المائة من قيمة تلك المكافآت.
العمل جارٍ أيضاً لملاحقة، ليس فقط البنوك العاملة على أرض الدول الأعضاء في المجلس، ولكن أيضاً العاملة في الملاذات الضريبية، وهو ما يمثل نقلة نوعية للتعامل مع هذه القضية. فجميع الدول متفقة على ضرورة التزام تلك البنوك بمقررات المجلس إذا ما أرادت أن تعمل في إطار معولم، وإذا ما أرادت أن تتمتع بفوائد هذا النظام. في الولايات المتحدة هناك لجنة تراقب مكافآت التنفيذيين، ليس في المصارف فقط، ولكن في الشركات التي استفادت من برنامج الدعم الحكومي للأزمة، على الرغم من أن الأمريكيين هم الأكثر ليونة في ذلك مقارنة بنظرائهم الفرنسيين الذين يصرون على التعامل مع هذا الأمر بحزم.
المصارف كذلك متهمة باستغلال عملائها من خلال البطاقات الائتمانية وهو ما أدى إلى تنظيم جديد لتلك البطاقات وللفوائد المترتبة عليها ما حدّ من قدرة البنوك على فرض فوائد كبيرة جداً على الأرصدة المدينة للعملاء. كل ذلك يهدف إلى إعادة تنظيم النظام المالي العالمي الذي شهد فترة من الفوضى العارمة خلال العقد الأخير، لكن يجب ألا تؤدي تلك التدابير في النهاية إلى قتل حوافز العمل الجاد ما سيؤدي إلى آثار سلبية على تلك المصارف وعلى النمو الاقتصاد بالنظر إلى دورها المهم في الاقتصاد.