تقرير: الخلل البنيوي في الاقتصاد الأمريكي يهدّد مكانة الدولار العالمية

تقرير: الخلل البنيوي في الاقتصاد الأمريكي يهدّد مكانة الدولار العالمية

فقدت العملة الأمريكية، الدولار، ما حققته من مكاسب لفترة قصيرة مع تذبذب مؤشرات أسواق العالم الرئيسية في موسم الإعلان عن بيانات الشركات الفصلية، ولأن سعر الدولار يتحرك عكس مؤشرات الأسهم عادة، فقد كان التذبذب في سعره آنيا مرتبطا بحركة مؤشرات الأسهم.
لكن العوامل الرئيسية التي تحكم منحى هبوط الدولار في الأشهر الأخيرة، وتحديدا منذ بدء الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لم تتغير، لذا يتوقع استمرار هبوط العملة الأمريكية، وفق تقرير بثته «بي بي سي».
ونتيجة اهتزاز الثقة بأكبر اقتصاد في العالم، الداعم للورقة الخضراء، يواصل المستثمرون والمضاربون بيع الدولار، فيهوي سعره مقابل العملات الرئيسية الأخرى في العالم كاليورو والين وغيرهما.
وتواصل العملة الأمريكية هبوطا مطردا تقريبا في قيمتها منذ مطلع العام زادت نسبته الآن في المتوسط على 15 في المئة. ويحذو الجنيه الاسترليني حذو الدولار، فالاقتصادان الأمريكي والبريطاني هما الأكثر تأثرا بالأزمة ويعتمدان بشدة على القطاع المالي.
في المقابل يحافظ اليورو على مكانته كأقوى العملات الرئيسية من حيث القيمة مقابل العملات الأخرى منذ تعمقت الأزمة الاقتصادية العالمية. بينما يتذبذب سعر الين الياباني حسب حركة سوق العملات ارتفاعا وانخفاضا مقابل الدولار أساسا، أما بقية العملات الأخرى فإما هي مرتبطة بالدولار تقليديا، كاليوان الصيني ومعظم عملات الدول العربية، وإما تقاس قيمتها سوقيا بالصرف بالدولار أيضا.
وبعيدا عن التذبذبات الطفيفة، يبقى تقييم المستثمرين والمحللين على المدى القصير هو هبوط قيمة الورقة الخضراء لأسباب عدة منها: توقع استمرار معدلات الفائدة الأمريكية منخفضة قرب الصفر لفترة أطول, استمرار العجز المرتفع في الميزانية الفيدرالية الأمريكية مع تباطؤ التعافي الاقتصادي، وتعمق مواطن الخلل البنيوية في الاقتصاد الأمريكي التي كشفت عنها الأزمة المالية الأخيرة.
ويرى كثير من المحللين أن العوامل الآنية التي تؤثر في هبوط قيمة الدولار مرتبطة إلى حد كبير بثقة المستثمرين أساسا بالاقتصاد الأمريكي. ورغم ضعفه، لا يوجد بديل للدولار حتى الآن كعملة رئيسية، ويعود هبوط قيمة الدولار إلى ما قبل سنوات، وربما بدأ تطور التراجع منذ عام 2004.
وتعد العملة الأمريكية منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي مخزن القيمة الرئيسية ومعيار التسعير التجاري والمالي في العالم. لكن منذ بدأت الأزمة العالمية العام الماضي أصبحت الورقة الخضراء موضوع جدل في أنحاء العالم حول دوره كعملة قياس عالمية حلت محل الذهب منذ ما سمي بتوافق واشنطن قبل أكثر من ثلاثة عقود. وارتفعت أصوات تطالب باستبدال الدولار، على الأقل كعملة رئيسية للاحتياطيات الأجنبية، والتوصل إلى عملة بديلة أو سلة عملات من بين عملات التداول الدولي الرئيسية.
وحتى قبل الأزمة، شهد الدولار استهدافا دوليا محدودا عندما قرر العراق قبل غزوه واحتلاله بأشهر تسعير نفطه باليورو بدلا من الدولار، وقبل أشهر من الأزمة الأخيرة أيضا أعلنت إيران أنها ستسعر نفطها باليورو بدلا من الدولار.
وبلغت العملة الخضراء من هشاشة الوضع الآن أن تقريرا صحافيا في صحيفة بريطانية هوى بسعرها في السوق وجعل المستثمرين يهرعون للتخلص مما لديهم من دولارات وأصول مقيمة بالدولار. وذكرت الصحيفة حينذاك أن مسؤولين من دول الخليج ومن الصين وروسيا وغيرها يناقشون تغيير تسعير النفط في الأسواق من الدولار إلى عملة أخرى أو سلة عملات. لكن دول الخليج عادت ونفت هذه الأنباء.
ومع أن الأطراف التي ذكرت في التقرير نفت ذلك، لكن الأسواق تعي أن الدولار يتعرض لضغوط عالمية ـ وليس فقط يفقد من قيمته نتيجة ضعف اقتصاده «الأمريكي» وتراجع القوة الاقتصادية العالمية لبلده. فدول مثل الصين وروسيا تعرب عن ذلك من حين لآخر، وترى أن وضع الدولار لم يعد مستداما وبالتالي يجب البحث عن بديل دولي.
وترى بعض الدول الرئيسية في أوروبا وغيرها أن الأمريكيين سعداء في قرارة أنفسهم بتراجع قيمة عملتهم، فذلك يجعل صادراتهم أكثر تنافسية، كما أنه يقلل من قيمة ديونهم لبقية العالم وبالتالي يخفض العجز الأمريكي بقدر انخفاض قيمة الورقة الخضراء. إلا أن أغلبية تلك الدول، في الوقت نفسه، هي التي تحافظ على الدولار وتحميه من الانهيار التام.
فالصين، مثلا، التي تملك نحو تريليوني دولار من احتياطيات النقد الأجنبي أغلبيتها بالدولار ومع أن قيمة احتياطياتها بالدولار تتراجع مع هبوط سعر الورقة الخضراء إلا أنها لا تستطيع التخلص من قدر كبير منها واستبداله باليورو مثلا أو الين. ففي تلك الحالة، وإذا جارتها في ذلك دول تملك احتياطيات نقد أجنبي هائلة بالدولار كاليابان وكوريا الجنوبية ودول الخليج وروسيا، ستنهار العملة الأمريكية تماما وتخسر تلك الدول معظم احتياطياتها.
وليس غريبا أن تلك الدول التي تطالب بعملة دولية جديدة تحل محل الورقة الخضراء هي أكثر الدول الدائنة للولايات المتحدة، إذ تملك الاقتصادات الصاعدة النسبة الأكبر «ربما ثلاثة أرباع» من سندات الدين الأمريكية التي تقدر بنحو 7.5 تريليون دولار.
ومما يزيد الأمر صعوبة على بقية دول العالم، ولا يزعج الأمريكيين كثيرا، هو أن العملات الأخرى المرشحة لتحل محل الورقة الخضراء كعملة قياس دولي ومخزن عالمي للقيمة ليست مؤهلة لذلك حتى الآن.
فالعملة الصينية، اليوان، وإن كان وراءها اقتصاد قوي ينمو بسرعة وفائض مالي هائل إلا أنها لا تكاد تكون متداولة أبعد من هونج كونج. ولا يمكن تصور أن يبدأ المستثمرون في شراء سندات أو أصول مقيمة باليوان إلا بعد زمن طويل. وربما يكون اليورو هو الأنسب بديلا للورقة الخضراء، فوراءه اقتصاد أوروبي مستقر والسندات المقيمة به تكاد تعادل قيمتها قيمة تلك المقيمة بالدولار. لكن المشكلة أن الأصول المقيمة باليورو موزعة بين عدة اقتصادات أوروبية متباينة في نموها وحتى هياكلها ونماذج تنميتها. كما أن القدر المتداول دوليا من أصول باليورو ليس بالكبير.
وهكذا سيظل الدولار الضعيف يحتل مكانة رئيسية في العالم، ذي الاقتصاد الراكد حاليا، إلى حين. ولا يتوقع أن يبرز بديل فاعل للورقة الخضراء كمخزن للقيمة والثروة في العالم، إلى أن تذبل تماما وتموت انهيارا أو تدب فيها الحياة مرة أخرى.

الأكثر قراءة