رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


فلسفة تقديم الخدمات الصحية .. الهوية نبيلة والطريقة غائبة

تنص المادة 31 من النظام الأساسي للحكم على أن الدولة تتكفل بتوفير رعاية صحية لمواطنيها, فالدولة التزمت بتوفير الخدمة الصحية لمواطنيها، لكن المشكلة الأساسية في كيفية تحقيق هذا الهدف النبيل, خصوصا أن المشكلة الصحية لدينا الآن ليست في ضعف الميزانيات الصحية, كما سبق أن أوضحت هذه الحقيقة في مقال سابق بعنوان «الصرف على الخدمات الصحية بين دعوى قلة الموارد المالية وغياب آلية لاستثمارها».
لعل المطلع على نظم الرعاية الصحية في دول العالم, خصوصا ما تسمى الدول المتقدمة يجد أن أنظمتها الصحية مبنية على إيجاد قنوات لتحصيل المال من أجل دعم، تشغيل خدماتها الصحية (ضرائب أو نظام تأمين اجتماعي أو تأمين تجاري) وكيفية شراء الخدمات الصحية (عبر تأمين صحي أو عبر المستشفيات الحكومية فقط أو عبر المستشفيات الحكومية والخاصة وكيفية الدفع أو شراء الخدمة وغيرها). ثم تأتي آلية إدارة تقديم الخدمة الصحية وتصنيف الشرائح المستفيدة من الخدمة الصحية وغيرها تباعا.
ربا لا تكون لدينا مشكلة في كيفية الحصول على الدعم المالي اللازم لدعم الميزانية الصحية بسبب تكفل الدولة سنويا بدعم القطاع الصحي بنسبة تراوح بين 8 في المائة و9 في المائة من ميزانيتها السنوية, خصوصا الميزانيات الصادرة بعد عام 1999 عندما قفزت مخصصات الصحة من 5 في المائة عام 1998 إلى 9 في المائة ما بعد عام 1999 من مجمل الميزانية العامة للدولة, فمثلا عام 2007 تجاوز الصرف على الخدمات الصحية 9 في المائة من مجمل الميزانية السنوية حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية. هذه النسبة لا شك جيدة, خصوصا أن نسبة الإنفاق الحكومي على المصروفات الصحية في حدود 80 في المائة من إجمالي النفقات على الخدمات الصحية. كما أن الضمان الصحي التعاوني رافد آخر ومهم جدا في دعم المخصصات الصحية وزيادة مشاركة القطاع الخاص في نسبة الإنفاق على الخدمات الصحية.
من هذه الحقائق لعلنا نتفق حول جزئية وهي أن المشكلة الصحية لدينا ليست في توافر الميزانيات المخصصة للصحة ولكن في كيفية إدارتها واستثمارها.
بقيت لدينا إشكاليات أخرى تتعلق بكيفية شراء الخدمات الصحية وإدارتها. مثلا مبدأ المساواة في تلقي الخدمة الصحية من المبادئ التي تسعى الدول إلى تحقيقه، وإن اختلفت في طريقة تحقيق هذا المبدأ وأحيانا في مفهوم المبدأ. البعض يعتقد أن المساواة تقتصر على العدالة في تلقي الخدمة الصحية حسب الحاجة الصحية لا القدرة المالية, كما أن البعض يعتقد أن العدالة في تلقي الخدمة الصحية يقتضي العدالة في المشاركة فيها وإن كان لا يعني بالضرروة المساواة في قيمة المبلغ المدفوع أو استخدام الخدمات الصحية لوجود أصحاب الدخل المحدود وكبار السن, وهم من الشرائح التي تشكل تحديا لكل مهتم بالسياسات الصحية. يبقى السؤال الأهم في هذا السياق: كيف توفر الدولة الرعاية الصحية لمواطنيها؟ وما الاعتبارات الأساسية التي يجب أن نبدأ بها قبل النظر إلى مقدمي الخدمات الصحية وزيادة أعداد مقدمي الخدمات الصحية؟ خصوصا أن سياسة زيادة أعداد مقدمي الخدمات الصحية لم تحسن ولم تزد من حصول المواطنين على رعاية صحية معقولة. المشكلة في تصوري تحتاج إلى تحديد مسار محدد يعجل من استعادة ثقة المواطنين بمستوى الخدمة المقدمة ومن ثم حصوله على الرعاية التي يستحقها.
وقبل الإجابة عن هذه التساؤلات الحيوية لعلي أبدأ بإطلالة سريعة على: كيف استطاعت بعض الدول ضمان مواطنيها الحصول على الرعاية الصحية؟ ولعلي أكتفي في هذا المقال بذكر نظامين صحيين مختلفين من حيث التنظيم لكنهما متشابهان في تحقيقهما النسبي هذه الغاية المنشودة .
النظام الأول: النظام الألماني الذي ينظر إلى العدالة عبر تحديد مستوى عادل من المشاركة من قبل المستفيدين من الخدمة الصحية, فالنظام الصحي الألماني يعد من أقدم الأنظمة الصحية ومن أشهرها في أوروبا, فالعدالة في النظام الصحي الاجتماعي يعني العدالة في نسبة المشاركة بغض النظر عن الحالة الصحية للمشاركة, لذا فالمشاركة لا تعني تحقيق المساواة في القيمة المدفوعة لاختلاف دخل الناس, ولكن تحقيق مفهوم العدالة يقتضي تساوي الناس في تلقي الخدمة والمشاركة فيها بغض النظر عن الحالة الصحية للمستفيد من الخدمة. ومما تجدر الإشارة إليه أن النظام الصحي الألماني أتاح لأصحاب الدخول المرتفعة ممن يبحثون عن الرفاهية العلاجية (لأن الحصول على الرعاية الصحية مكفول للجميع), إمكانية الانضمام إلى نظام التأمين الخاص التجاري, وإن كانت شروط الانضمام إلى التأمين الصحي التجاري متاحة لمن لديهم القدرة المالية المرتفعة، كما أن شروط التحويل من النظام الصحي الاجتماعي إلى النظام الصحي التجاري ليست بالسهلة, فأحد هذه الشروط أن من يخرج من نظام التأمين الاجتماعي للنظام التجاري لا يمكنه الرجوع إليه.
بعض الدول وفرت الرعاية الصحية بالمجان (عبر زيادة الضريبة لتشمل التكلفة العلاجية) ليس للمواطنين ولكن لكل مقيم على أرضها كبريطانيا, كما ركزت على تفعيل الحصول على الرعاية الصحية عبر طبيب الأسرة, لكن الخدمة الصحية في بريطانيا قائمة على ترتيب الأولوية بالنسبة إلى تقديم الخدمة وأولوية إدارة الخدمة وأولوية مستوى الخدمة, فأولوية تقديم الخدمة تمر عبر مراكز الرعاية الأولية التي يحدد الطبيب مدى الحاجة الصحية إلى تحويل المريض إلى مختص. أما أولوية إدارة الخدمة - من وجهة نظر صناع القرار الصحي - فتبدأ من المستشفى لا من مركز الرعاية الأولية، بينما أولوية تحديد مستوى الخدمة تبدأ من قبل مراكز الرعاية الأولية, فمثلا ركزت وزارة الصحة عبر NHS على تشغيل المستشفيات لكنها أوكلت تشغيل مركز الرعاية الأولية لأطباء الأسرة والمجتمع (ليسوا بالضرورة موظفين لدى NHS) بحيث يتم دعم وتشغيل تلك المراكز عبر مخصصات مالية لمن يشغل تلك المراكز الصحية, كما يحق للمريض أن يختار المركز الصحي الذي يعالج فيه في حدود منطقته. هذا الإجراء يجبر القائمين على تلك المراكز على تقديم خدمات ذات جودة عالية نسبيا, كما أن طريقة الاعتماد المالي لمشغلي تلك المراكز تتم عبر النظر إلى عوامل محددة سلفا كعدد المرضى المراجعين لتلك المراكز ومدى مساهمة المراكز في تحسن حالة المرضى الصحية, خصوصا الأمراض المزمنة كالسكري والضغط وغيرهما, إضافة إلى إسهامها في إقلاع المرضى عن العادات الصحية السيئة كالتدخين وتقليل السمنة وغيرها, لذا تجد الطبيب يحرص على تحسن حالة مرضاه الصحية من أجل زيادة الدخل المرتبط بتحسن حالة المرضى الصحية. فقياس مخرجات مراكز الرعاية الأولية ليس عسيرا ومن السهل وضع مؤشرات أداء لمراقبة إنتاج وفاعلية تلك المراكز. لذا تعد مراكز الرعاية الأولية «تسمى طب الأسرة والمجتمع لارتباط الطبيب بالأسرة» من أنجح المراكز الصحية بسبب نجاح تشغيلها بعيدا عن البيروقراطية التشغيلية. كما أن المراكز الموجودة في مناطق بعيدة يتم دعمها بشكل خاص.
في الجانب المقابل ركزت وزارة الصحة البريطانية عبر NSH على إدارة مستشفياتها وتشغيلها لأن متابعة أداء المستشفيات ووضع معايير الجودة لها ليست بالمهمة السهلة، بينما متابعة معايير الجودة ومدى التزامها بالجودة من قبل مراكز الرعاية الأولية ليس بالأمر العسير. طبيب الأسرة هو المتابع الأوحد لحالة المريض وأسرته لدرجة أن المريض إذا تم تحويله إلى المستشفى للعلاج فإن صرف العلاج يتم عبر طبيب الأسرة, لذا تجد أن العلاج إذا صرف من الصيدلية الخاصة عبر وصفة طبيب الأسرة فإن السعر مدعوم من الحكومة وبمبلغ رمزي, أما إذا لم يكن عبر وصفة طبيب الأسرة فإن تكلفة العلاج ستكون مرتفعة جدا.
لذا تجد أن وزارة الصحة البريطانية استطاعت أن تركز على الخدمة العلاجية عبر تشغيل مستشفياتها مع مراقبة إدارة مراكز طب الأسرة والمجتمع عبر توحيد الملف الطبي. ملف المريض متاح إلكترونيا لمتابعة ومراقبة جودة الخدمة من قبل مراكز الرعاية الأولية ومتابعة عمل المراكز الصحية والحالة الصحية لسكن كل حي.
كما أن النظام الصحي الألماني سمح للعيادات الخاصة «مشابهة للعيادات الخارجية» بتقديم الخدمة لكن تشغيل المستشفيات «يتم من قبل المستشفيات الحكومية أو التعليمية أو غير الربحية». العيادات الخارجية تدار من قبل القطاع الخاص ومشابهة تشغيلا من النظام الصحي البريطاني. كما تشترك أيضا مع النظام الصحي البريطاني في أن مجمل مستشفياتها تشغل بصورة غير ربجية لكن عيادتها قد تكون ربحية. لكن لا يعني كلامي أن المستشفيات الخاصة لا تعمل فدور القطاع الخاص في كلا النظامين محدود (في بريطانيا في حدود 12 في المائة).
النظام الصحي البريطاني يعد من أنجح الأنظمة في الاستفادة من ميزانيته السنوية حيث تشكل الميزانية الصحية في حدود 8 و9 في المائة, ومع ذلك فمخرجات النظام الصحي البريطاني مشابهة, إن لم تكن أفضل من عديد من الدول المتقدمة التي تنفق في حدود 17 في المائة كالنظام الصحي الأمريكي. كما أن التشريعات الأخيرة على النظام الصحي البريطاني سرعت في حصول المواطنين على الرعاية الصحية, خصوصا عندما اشترطت إبان حكومة بلير ألا تزيد مدة تحويل المريض للإخصائي في حالة التحويل الروتيني «غير المستعجل» على 14 أسبوعا.
حقيقة لا أعلم سبب توجه وزارة الصحة لدينا بصورة عكسية عن الدول الأخرى, فالوزارة حاولت أن تدير ما لا تستطيع إمكاناتها إدارته, ما تسبب في ضعف مستشفياتها ومركز الرعاية الأولية على حد سواء. فمع الأسف أن وزارة الصحة تشغل بعض مستشفياتها عبر شركات تشغيلية خاصة, بينما حاولت وزارة الصحة تشغيل مراكز الرعاية الأولية ما تسبب في عجز مالي وإداري لإدارة المستشفيات ومراكز الرعاية الأولية على حد سواء. لذا أجد أن تحديد ما تديره وزارة الصحة وتشغله من خدمات وما يمكن تخصيص تشغيله يجب أن يدرس بما يضمن تحقيق جودة الخدمة مع ضمان مراقبة مستوى الخدمة.
ختاما آمل أن يتمكن وزير الصحة عبر المجلس الاستشاري, الذي استبشرنا به, من وضع استراتيجية عملية لأن كثيرا من الاستراتيجيات التي عملت يعاب عليها الإغراق في التنظير مع غياب الرؤية وتحديد الأولويات في كيفية تنفيذ تلك الخطط. كما أن النظرة إلى تقديم الخدمة يجب أن تتجاوز كيفية تشغيل مستشفيات وزارة الصحة إلى نظرة استراتيجية تتكامل معها عناصر تطوير الخدمة الصحية. كما أتمنى ألا تستحوذ مشكلات التشغيل (التي تبدأ ولا تنتهي) وننسى وضع آليات عملية لتحقيق استثمار أفضل للميزانيات الصحية. المشكلة الرئيسة تكمن في أن لدى الوزارة غزارة في الإنتاج وسواء في توزيع الخدمة أو جودتها.
فهل نسمع ونرى خطة قادرة على تنفيذ وتحقيق ما نص النظام الأساسي للحكم على السعي إلى تحقيقه بتوفير الرعاية الصحية للمواطنين؟ خصوصا أن المشكلة لدينا ليست مادية بل سوء استثمار للموارد المالية المخصصة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي