رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


حتى لا تكون الشهادة أداة ظلم..!

قبل أيام جمعني مجلس باثنين من الرجال الفضلاء الكرام, وكان أحدهما محامياً قديراً, فذكر لي ما يقوم به بعض هواة جمع المال الحرام, من خلال القيام بدور الهوامير, ليس عن طريق بوابة سوق المال, ولكن عن طريق بوابة المحاكم, وذلك بانتزاع أموال الناس قسراً بدعاوى كاذبة, ومن خلال نسج مسرحية بيع وشراء مكتملة النص والفصول, وإحضار الجماهير كشهود على هذه العملية, كالدعوى- مثلا- على رجل أعمال, بشراء المدعي منه قطعة أرض بمئات الآلاف, وربما بملايين الريالات, أو ببيعها عليه بهذا المبلغ الكبير, وتثبيت هذه الدعوى بشاهدي زور..! ثم يتأبط هذا المدعي الكاذب ما ادعاه من عقار أو من مبلغ الصفقة. ولهذا يرى حبيبنا المحامي أن تسنّ الجهات التنظيمية قانوناً لعمليات البيع والشراء الكبيرة, بحيث لا تسمع المحاكم الدعوى بسقف معين من الريالات إلا بأوراق ثبوتية؛ حسماً لموضوع التلاعب بأموال الناس عن طريق شهود الزور - لا كثرهم الله.
وفي الواقع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل بمثل هذه الحلول؛ لأنها تضيق دائرة الإثبات, وتحجّر واسعاً في قضايا المعاملات.
إذن ما الحل..؟ هل تبقى أموال الناس مستباحة بشهادة الزور..؟
والجواب: إن القاضي الحصيف يجب أن يتنبه لكل شهادة تحمل في ظاهرها ريبة, فيشمِّر القاضي عن ساعديه, ويفرِّق الشهود, ويوجه لهم الكثير من الأسئلة التي ربما لا يستعد لها شهود المدعي, ولا ينقدح في ذهنهم أنها يمكن أن توجَّه لهم, حتى يكشف زيفهم, ويظهر كذب الشهادة التي حفظوها عن ظهر قلب, ونسجوا فصولها من وراء الكواليس, ولا سيما إذا كان المبلغ كبيراً (إذ لم تجر العادة بترك الصفقات الكبيرة خلواً عن وسائل كتابية), أو إذا كان موعد الصفقة المدعى بعيداً (إذ قد يدعي البعض البيع أو الشراء أو فسخ الصفقة بعد زمن حين ينخفض أو يرتفع سعر العقار)، وقد أكد الفقهاء منذ زمن بعيد ضرورة تفريق الشهود عند وجود ريبة ما, أو عندما يطعن الخصم في الشهود, ومنهم ابن قدامة في «المغني», وابن القيم في «الطرق الحكمية», والشوكاني في «السيل الجرار», والقنوجي في «الروضة الندية» (2/256), حيث قال: «وأما تحليف الشهود عند الريبة, فالظاهر أنه من جملة التثبيت المأمور به, ولا سيما مع فساد الزمان, وتواثب كثير من الناس على شهادة الزور.., وتفريق الشهود من أعظم ما يستعان به على الفرق بين صدق الشهادة وكذبها, ولا سيما إذا سألهم الحاكم عن بعض الأحوال التي يجوز تواطؤهم عليها.., قال في «حاشية الشفاء»: ولقد انتفعت بتفريق الشهود, وتنويع سؤالهم, وقل ما تصح شهادة بعد ذلك, والحاكم لا يحل له التساهل, بل يجب عليه إكمال البحث عن كل ما يتوصل به إلى كشف الحقيقة»أهـ.
تفريق الشهود, وتوجيه القاضي لهم أسئلة لا تخطر ببالهم، لا شك أنه أسلوب فعال وناضج, يؤدي إلى كشف حقيقة الشهادة, وبيان زيفها, والشهادة يجب ردها حين يأتي من القرائن القوية ما يدل على كذبها, ولهذا ردّ سليمان بن داود الإقرار حين دلت القرائن القوية على كذبه, كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه, عن أبي هريرة: عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: (بينما امرأتان معهما ابناهما, جاء الذئب فذهب بابن إحداهما, فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت, وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك, فتحاكمتا إلى داود, فقضى به للكبرى, فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام, فأخبرتاه, فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما, فقالت الصغرى: لا - يرحمك الله - هو ابنها, فقضى به للصغرى) فلم يقبل سليمان عليه السلام إقرار الصغرى؛ استدلالاً بالقرينة على كذب الإقرار, والقرينة هنا خوف الصغرى على ولدها, وعدم مبالاة الكبرى بشقه نصفين, مما يدل على عدم وجود حنان الأم الذي فطرت عليه بنات آدم, قال ابن القيم في الطرق الحكمية (1/6) تعليقاً على هذا الحديث: «أي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة, فاستدل برضا الكبرى بذلك, وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها, وبشفقة الصغرى عليه وامتناعها من الرضا بذلك على أنها هي أمه, وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم, وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها, فإنه حكم به لها مع قولها هو ابنها, وهذا هو الحق, فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه, ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمال لوارثه؛ لانعقاد سبب التهمة, واعتمادا على قرينة الحال في قصده تخصيصه» أهـ.
إن الشريعة الإسلامية لم تترك مجالاً يحقق العدل إلا سلكته, ومهدت سبله, فإن جاء الحكم القضائي جائراً, أو خاطئاً, فالمشكلة ليست من الشريعة ذاتها, وحاشاها, ولكن ممن لم يستوعب الشريعة على حقيقتها..!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي