رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ما أكثر الدول رفاهية؟ مفاهيم جديدة للرفاه الاقتصادي

أحدثت الأزمة المالية العالمية ثورة على كثير مما كان يعد في السابق مسلمات اقتصادية، وأصبح كثيرون ينادون بالتفكير في نماذج جديدة لقياس النمو الاقتصادي. فكما هو متعارف عليه، فإن الناتج المحلي الإجمالي هو الطريقة التي يقاس بها أداء النشاط الاقتصادي للدولة خلال العام، كما أن نسبة التغير فيه من سنة إلى أخرى تعد مؤشرا على النمو الاقتصادي للدولة. لكن ما كان يعد مؤشرا مسلما به لأداء النشاط الاقتصادي أصبح اليوم يخضع لكثير من النقد والمراجعة والبحث عن بديل أكثر تمثيلا للنمو الاقتصادي الحقيقي في الدولة.
الناتج المحلي الإجمالي يقاس حاليا بإجمالي ما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات خلال السنة، لكنه لا يأخذ في الاعتبار عوامل أخرى قد تزيد أو تنقص من القيمة الحقيقية لهذا الناتج. على سبيل المثال، قد يكون لبناء جسر أو سد مائي آثار إيجابية كثيرة لا يتم أخذها في الاعتبار عند قياس الناتج، كزيادة التوظف وتحقيق الاستقرار الاجتماعي وزيادة حركة التجارة، وغيرها من العوائد الإيجابية التي لا تدخل في قياس قيمة الناتج المحلي الإجمالي. وفي المقابل فإن هناك كثيرا من الأنشطة الاقتصادية التي تحقق قيمة مضافة تضاف إلى قيمة الناتج المحلي الإجمالي، كمصانع الأسمنت مثلاً ، لكن لا يتم احتساب العائد السلبي الناتج عن تدهور صحة كثير من الأفراد الناتج عن تلوث الأجواء من جراء عملية الإنتاج.
إضافة إلى ذلك، فإن انتقادا آخر يوجه إلى الطريقة الحالية لقياس الناتج المحلي الإجمالي بناء على عدم منطقية المقارنة بين الدول بمقارنة فقط قيم الناتج في كل دولة، أو بمجرد مقارنة معدلات النمو السنوية. فقد يكون الناتج المحلي الإجمالي في دولة (أ) مرتفعا مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي لدولة (ب). لكن قد تكون تكلفة إنتاج ذلك الناتج في دولة (أ) أعلى بكثير منه في دولة (ب). مثال على ذلك أوردته مجلة ''الإكونوميست'' يتعلق بالناتج المحلي في فرنسا والولايات المتحدة، حيث يمثل الناتج في فرنسا 73 في المائة من الناتج المحلي في الولايات المتحدة. لكن ساعات العمل في فرنسا أقل منها من الولايات المتحدة، وعند أخذ ذلك في الاعتبار يصبح الناتج في فرنسا يعادل 87 في المائة من الناتج في الولايات المتحدة.
إذاً عوامل أخرى يجب أخذها في الاعتبار عدا قيم الإنتاج المادي فقط لحساب الناتج المحلي الإجمالي، وهي إلى أي مدى يسهم ذلك الإنتاج في تحسين الوضع العام لحياة الأفراد في شتى المجالات المادية والاجتماعية والصحية والثقافية والحضارية. كل هذه العوامل يجب أخذها في الحسبان عند مراجعة الإنجاز الاقتصادي الذي حققته الدولة خلال فترة معينة، وببساطة يمكن القول إننا في حاجة إلى مقياس شامل للسعادة التي حققها المجتمع وليس فقط العائد المادي البحت الذي يتم تضمينه في حساب الناتج المحلي الإجمالي حاليا. والأزمة المالية الحالية دليل دامغ على أن المؤشر المادي البحت قد يؤدي إلى نتائج سلبية كبيرة على البشرية وستتكرر أزمات أخرى إن استمر الوضع على ما هو عليه في استخدامه كمقياس وحيد للإنتاج القومي.
إذ إن العوائد المادية التي حققها كبار مديري الشركات وكبار ملاكها كانت تظهر أن هناك نموا اقتصاديا إيجابيا يزداد عاما بعد عام، لكن لم يفكر أحد في مخاطر ذلك الإنتاج الذي كان فخا جر معه الاقتصاد العالمي بأجمعه في أتون أسوأ أزمة مالية منذ أزمة الكساد الكبير. هذا الأمر يثير التساؤل عن جدوى الاعتماد على الناتج المحلي الإجمالي كمقياس للتقدم الاقتصادي في الدولة على الرغم من الجوانب الايجابية والسلبية التي يغفلها هذا المقياس، وهذا ما دعا بعض أرباب الفكر الاقتصادي الحديث من أمثال جوزيف ستيجلتز ومارتيا سينق الحائزان جائزة نوبل في الاقتصاد إلى الدعوة إلى تبني مفهوم جديد لقياس الأداء الاقتصادي للدولة.
وهذه الدعوات تبلورت إبان الأزمة المالية الحالية في لجنة شكلها الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي دعا فيها 25 من علماء الاقتصاد البارزين، منهم خمسة من الحائزين جائزة نوبل في الاقتصاد، وترأسها ستيجلتز بهدف إعادة صياغة مفهوم الرفاه الاقتصادي. وقدمت هذه اللجنة تقريرا من 292 صفحة تضمن ثلاثة أقسام رئيسية. الأول يتعلق بنقد الطريقة الحالية لقياس الناتج المحلي الإجمالي واستخدامه كمقياس للرفاه الاقتصادي. والقسم الثاني تقديم مقياس جديد نوعي للحياة Quality of Life. والثالث ركز على قياس الرفاه الاقتصادي للأجيال القادمة أخذاً في الحسبان ما سيرثونه من موارد ناضبة وطبيعية ومبان وآلات وغيرها. هذا التقرير سيكون موضوع مقال الأسبوع المقبل ـ بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي