سيادة الديون الحالة في نظر الفقهاء وعقلاء الغرب

جاء في مقال الكاتب نيال فيرجوسون, المنشور في جريدة ''الفاينانشيال تايمز'' البريطانية, بنسختها العربية قبل أيام: ''كان يجب أن يموت (ليمان براذرز) من أجل الآخرين'' ثم قال في ذيل مقاله: ''لو أننا فقط تعلمنا من (ليمان) أنه يجب ألا يكون هناك أي بنك أكبر من أن يفشل، فربما ما زال لدينا الآن نظام رأسمالي فعلي..''أهـ، وهو كلام نفيس فعلا, ويدل على رجاحة عقل, ولا ريب أن في موت الشركات ''المفلسة'' حياة لغيرها من المصارف والمؤسسات والشركات المالية؛ لئلا يظن أحد أن هناك مؤسسات وشركات عملاقة في منأى من السقوط أو الفشل, أو بعبارة أدق من سداد الحقوق, وإعادة الديون لأصحابها (ولكم في القصاص حياة), وإن كان استرداد الدين ليس عقوبة ولا قصاصا, ولكن حين يطبق النظام على الجميع, ويصبح في ذهن كل المسؤولين عن الشركات والمؤسسات أنه لا حياة لأي شركة تغرق في بحر الديون, لا بتدخل الدولة ولا غيرها, إلا بمصالحة مع أصحاب الحقوق (الدائنين), فإن هذا سيعطي إشارة واضحة لهؤلاء الأباطرة أن يضبطوا استثمارهم وتعاملاتهم المالية, وألا يعرضوها لسيول الديون الجارفة, وأمواجها المتلاطمة, وبهذا يكون في ترك الشركات والمؤسسات المفلسة لمصيرها المحتوم حياة للباقي منها.
ثم إن مماطلة المدين لدائنيه, بحجة المحافظة على حجم أصوله أو بحجة انتشال استثماراته من تعثر ربما متوسط أو طويل المدى, كلها حجج غير مقبولة فقها وقضاء ''إذا لم تكن برضا الدائنين''؛ لأنها في النهاية حجج تخدم المدين على حساب الدائن, فقد تكون مصلحة الدائن في تحصيل أمواله فوراً, أما حين تكون مصلحته في تأخير تحصيلها, فسيرضخ لأسلوب التسوية قطعاً, وليس في حاجة إلى وصاية من أحد, فهو الأعلم بمصلحته, والأعرف في تقدير حجم العائد من التبكير أو التأخير في تحصيل ديونه، ولهذا يجب أن تقنن الدول سبل التسوية مع الطرفين دون شطط, لا فرض الحلول على الدائن؛ لمصلحة المدين.
وليس بصحيح أن مصلحة الاقتصاد الكلي تكون ''دوما'' بإنقاذ مثل هذه الشركات المتعثرة حتى الثمالة, بل كثيراً ما تكون مصلحته على المدى البعيد في ترك الشركات العابثة أو اللاهثة وراء استثمارات مسمومة؛ من أجل أن تواجه مصيرها المحتوم, ومستقبلا ''وهو الأهم'' ستحسب الشركات الاستثمارية الكبرى ألف حساب لأي ديون استثمارية يتم تحصيلها, ولأي أسلوب استثماري مغامر, إذا كانت على يقين بأن ديون الدائن سيكون لها ''حق السيادة عند الحلول'', بل ستضع الدول المتقدمة والناضجة العديد من الضوابط الدقيقة, وربما العقوبات المتشددة تجاه المجازفات الاستثمارية متى ما كان القضاء يعطي السيادة للديون الحالة, وهذا سر من أسرار الشارع الحكيم في وجوب إعادة الدين إلى دائنه فور حلوله, وتمكين الدائن من رقبة مدينه المماطل, واستحقاقه للعقوبة, كما في حديث(مطل الغني ظلم, يحل عرضه وعقوبته)، وقد يكون المدين غنيا بما يملك من سيولة, أو بما يملك من أصول تقدَّر بالمليارات, وليس مقبولا عقلا ولا شرعا أن يعب المدين من الديون عبا, ثم يحميه القضاء باسم حماية الاقتصاد, والاقتصاد لا يمكن أن يحمى بتصرفات طائشة؛ لأن الاقتصاد في النهاية سيكون كالهرم المقلوب, فيسقط عبر أي هزة مالية ولو كانت بمقدار درجتين على مقياس ريختر..!
ثم إن منح فرصة إضافية لشركات مدينة كبرى, ديونها بمئات المليارات, و''تقترب ديونها من حجم رأسمالها''؛ من أجل أن تلتقط أنفاسها, وترجع لوضعها الطبيعي, يحتاج إلى مليون سنة ضوئية, وببساطة شديدة بعد أن تعرض الشركات والبنوك الدائنة نفسها للتقبيل, أو بعد أن يهلك الدائن ويحدودب ظهره بمرور الزمن, أو على أقل تقدير بعد سنين عددا, فمن هو الدائن الذي سينتظر الدين بعد أن ينتج من في صلبه..؟ علماً بأن اقتراب الديون من رأس المال لشركة عملاقة لا يكون عادة إلا في ظروف غامضة أو عابثة, وهنا يجب ألا يعطى الغموض أو العبث فرصة لاستنشاق الهواء الطلق.
وفرق كبير بين الإلزام بسداد الديون الحالة, وبين الحكم بالإفلاس, فكلٌ له حكمه, والواقع أن بعض الدول الغربية يمكن أن ''تلزم'' الشركات والمؤسسات بالإفلاس ولو لم تبلغ الديون رأس المال, وهذا بخلاف ما قرره الفقه في شريعتنا؛ إذ إن الإفلاس لا يحكم إلا بما بلغت فيه الديون رأس المال, أو زادت عليه, كما قرره فقهاؤنا الأجلاء, وبذلك تتسع الحرية الاستثمارية هنا في شريعتنا بشكل أفضل, ولهذا لم يكن مستغرباً أن يحكم على (ليمان براذرز) بالتصفية, والموت شنقاً, مع أن ديونه لم تبلغ رأس المال, حيث بلغت ديونه حسب الوثائق المقدمة إلى المحكمة: 613 مليار دولار, وكانت أصوله 639 مليارا عند إفلاسه, كما في التقرير المنشور في جريدة ''الاقتصادية'' يوم السبت الماضي7/10/1430هـ, وهذا يعني أنه قد سَلِم من أصول المصرف (ليمان) ما قيمته 26 مليار دولار من الأصول, أي ما قيمته 97.5 مليار ريال, وفي نظر الفقه الإسلامي, فإن هذا المصرف يستحق الحياة ما دام أن ديونه لم تتجاوز رأسماله, أو على الأقل لم تبلغ رأس المال, وبالتالي في مثل واقعة (ليمان) فإن القاضي الفقيه يحجر على كل أصوله البالغة 613 مليار دولار, وتعاد الأموال إلى أصحابها دون تأخير, وما تبقى له من أصول, فإنها تبقى للمصرف ليتصرف فيها حسب شخصيته المعنوية, وعلامته التجارية, وقد تكفي هذه الأصول المتبقية ليتنفس المصرف برئتيه الإثنتين, ولا ريب أن عدم الحكم عليه بالإفلاس وعلى أمثاله يوسع من هامش الاستثمار, ويرفع من سقف الاقتصاد في البلد. ولكن يبقى السؤال المهم: هل أصول بنك (ليمان) مقدرة في حال عافيته, أو في حال انهيار أسهمه؟ إذا كانت مقدرة في حال العافية, فهذا يعني أن أصوله بعد انهيار أسهمه ستنخفض بأكثر مما جاء في الوثائق المشار إليها, وقد تتجاوز الديون الأصول بأكثر من رأس المال, وبالتالي لا مفر من الإسراع في الجنازة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي