جامعة الملك عبد الله مثال النمو النوعي
في السنوات الأربع الماضية قفز التعليم العالي قفزة كبيرة من الناحية الكمية على أقل تقدير حيث تضاعف عدد الجامعات فبدلاً من سبع جامعات أصبح الآن لدينا أربع وعشرون جامعة حكومية عدا الجامعات الأهلية، والكليات الخاصة، وما من شك أن زيادة الجامعات رافقها زيادة في عدد الطلاب الملتحقين بهذه الجامعات، إن لم نقل إن زيادة الجامعات جاء تلبيه لزيادة عدد الطلاب المتخرجين في الثانوية العامة. ولعل من البشائر التي سعد بها الوطن، والمواطنون هي موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على استحداث أربع جامعات في كل من الدمام، والخرج، وشقراء، والمجمعة، كما أن الرابع عشر من رمضان المبارك صادف اليوم الأول من بداية الدراسة لجامعة الملك عبد الله بن عبد العزيز في ثول، التي استكملت مشاريعها، ومرافقها في وقت قياسي كما أن الافتتاح الرسمي تم يوم الأربعاء الرابع من شوال، الذي صادف اليوم الوطني. وقد حضر المناسبة مع خادم الحرمين الشريفين رؤساء، وزعماء دول عربيه، وأجنبية لمشاركة المملكة هذه المناسبة السعيدة التي يدشن فيها مرفق تعليمي يؤهل أبناء الوطن للانخراط في سوق العمل في المجالات التي يحتاج إليها، وبالتأمل في التخصصات التي توجد في جامعة الملك عبد الله نجد أنها تخصصات طبيعية مما يعطي هذه الجامعة صفة تميزها عن الجامعات الأخرى التي ربما تدرس مجالات عدة فيها الطبيعي، الطبي، والإنساني، والشرعي، والإداري ... إلخ.
التركيز على بعض المجالات المعرفية لاشك أنه يمثل فلسفة تعليم عال تأخذ بها كثير من الجامعات، حيث تركز بعض الجامعات على مجالات محدودة، وتبرز، وتبدع في هذه المجالات التي تركز عليها حتى أننا نجد كثيرا من المنتسبين لهذه الجامعات يكون لهم باع طويل في مجال تخصصهم، ويبدعون لأن الجامعة تضع جهودها كافة، وتركز إمكاناتها على التخصص، أو التخصصات التي حددتها في برنامجها الأكاديمي بدلا من التوسع وتشتيت الجهود.
لقد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات في مقالات سابقة، وهو أن تنحو جامعاتنا منحنى التركيز على مجالات محدودة بدلاً من التشعب في مجالات قد لا يكون للجامعة قبل بها مما يترتب عليه ضعف في المخرجات، ومن ثم عدم تلبية احتياجات سوق العمل بالشكل الذي تتطلع إليه جهات التوظيف سواء في القطاع العام، أو القطاع الخاص.
سوق العمل لدينا في المملكة سوق كبير جداً، ويعمل فيه كثير من الوافدين الذين إما أن يكونوا قد تدربوا في بلدانهم، واكتسبوا المهارات اللازمة، أو أنهم اكتسبوها عند مجيئهم، والتحاقهم بسوق العمل. وما من شك أن أرقام التحويلات المالية التي تحولها العمالة أرقام مخيفة، وتمثل نزفاً هائلاً لثروة الوطن، ولذا فإن الدور المستقبلي للجامعات في بلادنا يفترض ألا يستمر على الصورة التقليدية التي كان يسير عليها خلال العقود الماضية. الوضع التنافسي الشديد في سوق العمل يفرض على الجامعات السعودية أن تقدم مخرجات عالية الإعداد، والتدريب، ولديها المهارات التي يحتاج إليها سوق العمل بدلا من اضطرار المتخرجين إلى أخذ دورات تعيد تأهيلهم، أو اضطرار سوق العمل لتوظيف الأجنبي بدلا من المواطن الذي يجد نفسه عاطلا مع أنه يحمل مؤهلا لكن المؤهل لا يمكنه من القيام بالدور المهني المطلوب. المجال الصحي يحتاج إلى عشرات الآلاف من الكوادر، ومجال القضاء يعاني نقص القضاة، والمجال التقني هو الآخر تسيطر عليه العمالة الأجنبية، وما من مجال إلا ونجد فيه مساحة تنتظر المؤهلين السعوديين الذين يمكنهم القيام بالدور كما يجب حتى لا يكون لجهات التوظيف حجة في توظيف العمالة الأجنبية واستبعاد السعودي. ولذا فدور الجامعات المستقبلي يفترض أن ينطلق من منطلقين رئيسين، المنطلق الأول يتمثل في تخريج الأعداد الكافية في المجالات التي يحتاج إليها سوق العمل على أن يكون الخريجون على مستوى عال من الإعداد، وهذا يتطلب توظيف عنصر التنافسية بين الجامعات ليس في افتتاح تخصصات جديدة في الجامعات الجديدة تناسب احتياجات سوق العمل فقط بل في إيجاد آلية وطنية يتم بموجبها المقارنة بين الجامعات في مخرجاتها من حيث جودتها، وأماكن توظيفها، وسرعة توظيفها ومستوى التوظيف، والدخل، والمشاركات التي قام بها الخريجون في أعمال، ومشاريع ملموسة على المستوى الوطني، أو العالمي إضافة إلى الجوائز، وشهادات التقدير التي نالوها بعد تخرجهم . في السابق حصرت بعض الجامعات نفسها في دائرة مغلقة من التخصصات، وأصبحت كما لو أنها قد احتكرت هذا المجال، ولا يحق للجامعات الأخرى دخوله، ولذا مرت سنين طويلة لم تتمكن فيه جامعاتنا من تلبية احتياجات سوق العمل، فعلى سبيل المثال الصيدلة نحتاج فيها إلى ما يزيد على 20 ألف صيدلي، وهذا يفرض على الجامعات أن تدخل هذا المجال بدلا من تركه لجامعات محدودة، كما أن السلك القضائي يعاني نقصا حادا في القضاة، وهذا يترتب عليه تأخير كثير من القضايا، وتراكمها في المحاكم، وتعطل مصالح الناس، وإن وضع سياج معنوي حول بعض التخصصات من قبل الجامعات لن يخدم سوق العمل، لكن خدمة سوق العمل تتطلب الاستعداد، وتوفير الإمكانات المادية، والبشرية التي تمكن الجامعات من تخريج كفاءات على مستوى عالٍ من الجودة.
المنطلق الثاني يتمثل في تركيز الجامعات على مجال تكون فيه بارزة، ومبدعة حتى وإن وجد في الجامعات الأخرى فعلى سبيل المثال علوم البحار توجد لها كلية في جامعة الملك عبد العزيز فهل وصلت، أو تصل جامعة الملك عبد العزيز مستقبلاً إلى مستوى الريادة في هذا المجال في الأبحاث، والدراسات، والمشاريع ذات العلاقة بالبحار، والحياة البحرية؟ كذلك مجال الحسبة، هل نجد من الجامعات من يتصدى لهذا المجال، ويبرز فيه بحثاً، وإعداداً للكوادر المؤهلة القادرة على القيام بهذه المهمة بصورة مهنية راقية؟ إن التحديات التي تواجه التعليم العالي كبيرة، ولا يمكن أن نحلها بافتتاح الجامعات فقط - رغم ضرورة ذلك - إن الأمر يتطلب مزيدا من الجهود، والتفكير الاستراتيجي الذي يأخذ في حسبانه حاجة الوطن، والتغيرات العالمية.