في الحالة التشادية
تصدر الإشكال بين البنك الدولي وتشاد، آخر المنضمين إلى نادي منتجي النفط ومصدريه، الأخبار خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك بسبب قيام تشاد بتعديل القانون الذي دخل بموجبه البنك مشاركا في تمويل خط الأنابيب الذي ينقل النفط التشادي إلى الأسواق العالمية.
ويتجاوز الأمر إشكالية تعديل القانون إلى إثارة علامات الاستفهام حول دور البنك وتجربته في الأسهام في تمويل المشاريع النفطية. فمن المعروف أن الصناعة النفطية تحظى بصورة نمطية سيئة تسهم فيها وسائل الإعلام، بما فيها الأفلام وآخرها فيلم "سيريانا" بطولة النجم جورج كلوني، إذ تربطها بالفساد وإشعال الحروب الأهلية، خاصة في دول العالم الثالث، حيث تضعف قدرات المجتمعات في مواجهة الحكومات. ولهذا تردد البنك الدولي طويلا قبل أن يقبل بالدخول في تمويل مشاريع مرتبطة بالصناعة النفطية، بل وظل يطلب المشورة والدراسات حول ما إذا كان عليه الاستمرار في تمويل مثل هذه المشاريع، وآخرها دراسة قدمت له العام الماضي، أوصت أن يوقف البنك أي تمويل ابتداء من عام 2008، وهي الدراسة التي رفضها مجلس إدارة البنك، من واقع أن العائدات المالية من المبيعات النفطية تمثل إحدى أفضل الأدوات في مقارعة الفقر، وهو هدف وضعه البنك على رأس قائمة اهتماماته.
والبنك محق في رفضه التوصية الخاصة بالبعد عن تمويل المشاريع النفطية، لأنه أدرى من غيره أن الدول النامية لا تتوافر لها فرصة لإحداث اختراق في هذا الجانب، فصادراتها الرئيسية عبارة عن سلع زراعية تتناقص أسعارها يوميا بسبب شروط التبادل التجاري غير المجزية من ناحية، وبسبب الدعم الذي يحصل عليه مزارعو الدول الغنية من الناحية الأخرى.
لكنه مواجه بضغوط عديدة من جمعيات البيئة ومنظمات المجتمع المدني، التي ترى في الصناعة النفطية الشر مجسدا من إشعالها الحروب الأهلية، تأثيراتها السلبية في البيئة والحياة السياسية من تنام للفساد إلى الهدر الاقتصادي في شكل مشاريع ينفق عليها من العائدات النفطية لكن دون جدوى واضحة.
وهذا كله حقيقي، لكنه ليس ذنب النفط، وإنما السياسات التي تتخذها الحكومات المختلفة. ومع الجهود التي بذلها البنك في وضع قوانين ونظم لضبط الإنفاق وتحديد الأولويات، إلا أن واقع الدول النامية يفرض مراجعات وتغييرات مثلما حدث في الحالة التشادية، وأثار علامات الاستفهام مجددا حول جدوى محاولة الإصلاح وتوجيه الثروة النفطية لصالح الناس لا المجموعات الحاكمة.
لكن في كل هذا غاب الطرف الثاني وهو الأكثر تأثيرا، والإشارة هنا إلى الشركات النفطية. فتشاد أو غيرها من الدول النفطية في العالم الثالث ليست لديها القدرة التقنية أو المالية لاستخراج النفط، ولهذا تعتمد على الشركات النفطية لمعاونتها على استخراج النفط والاستفادة من عائداته.
وفي تشاد تحديدا، فإن الكونسورتيوم تقوده "إكسون ـ موبيل" وتشارك فيه "شيفرون ـ تكساكو"، وهي من الشركات العملاقة في الصناعة النفطية، التي يتجاوز ربحها لفترة ربع واحد من العام إجمالي الدخل القومي لدولة مثل تشاد، ولها من القدرات والاتصالات ما يمكنها من التأثير في مجريات الأمور في دولة مثل تشاد، أكثر من البنك الدولي.
لقد فطنت بعض المنظمات المدنية النشطة في هذا المجال إلى هذه الحقيقة، وفي سعيها إلى محاصرة ظاهرة الرشوة طلبت من الشركات أن تنشر معلومات عن الرشاوى التي تقدمها إلى المسؤولين، لكن الأخيرين هددوا أي شركة تقوم بمثل هذه الخطوة بالغاء امتيازها. وبما أن الشركات عيونها على عائداتها وهي مسؤولة أمام حملة أسهمها وليس أمام جمعيات النفع العام هذه، فإن المشروع لم يتقدم خطوة إلى الأمام.
من السهل مطالبة المؤسسات مثل البنك الدولي بعدم الدخول في مشاريع تمويلية في الدول النامية، لكن هذا لن يحل المشكلة. والتناول العقلاني يتطلب إشراك الشركات الأجنبية في هذا المسعى وبصورة واقعية تضع في الحسبان حقائق السياسة والمصالح الاقتصادية، وأهم من هذا العمل على إقامة قاعدة من أهل البلاد لهم المصلحة في التعاون مع جهود البنك الدولي في محاربة الفقر وبث الشفافية، لكن فوق هذا كله كيفية تعديل ميزان التبادل التجاري العالمي الذي يميل دائما إلى صالح الدول الغنية، وذلك حتى تشعر الدول الفقيرة أن لها نصيبا في كعكة الثروة العالمية.
هذه قضايا مزمنة ظلت على طاولة المؤتمرات الدولية عقودا من الزمان دون حلول تذكر، وفاقم من الوضع تحول العالم إلى قطبية واحدة وسيادة اقتصاد السوق وتفكك دولة الرفاه التي عرفتها أوروبا الغربية كرد فعل على النموذج السوفايتي ابتداء. وكل هذا يجعل من قضية محاربة الفقر جزءا من برنامج عام ساحته العالم كله، لأن تنامي ظاهرة الإرهاب والعنف والتدفق البشري على الدول المتقدمة من نتاج حالة الفقر، بل والافقار التي تعيشها الدول النامية وترد عليها بصورة عشوائية في شكل انفجارات اجتماعية أو حروب أهلية وغيرها.