حرب التعريفات تهدد مستقبل الاقتصاد العالمي
على مدار عقدين، وبخاصة منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، شهد العالم مستوى متقدما من الانفتاح الاقتصادي، واكبته سلاسة ملحوظة في حركة التجارة العالمية. خلال تلك الأعوام تحولت الصين إلى الوجهة الأولى للتصدير في العالم متفوقة على الولايات المتحدة وحلفائها، وتحولت أيضا إلى واحدة من أهم الأسواق المستوردة في العالم. تلك المعادلة وضع لها انتخاب ترمب رئيسًا للولايات المتحدة بداية النهاية، فتحت شعار "اجعل أمريكا عظيمة مجددًا"، تبنى ترمب سياسات تهدف إلى إعادة الإنتاج مجددا إلى بلاده بعدما تخلت عنه في الأعوام الأخيرة لمصلحة القوى الصاعدة في العالم مثل الصين، ولتحقيق الهدف فقد قام باتخاذ عديد من الإجراءات لحماية الصناعة الأمريكية، ومنها فرض رسوم جمركية على السلع الواردة من الخارج وبالأخص من الصين، على سبيل المثال قام ترمب في 2018 بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب و10% على ورادات الألمنيوم القادمة من الخارج، ضاربًا بقواعد منظمة التجارة العالمية عرض الحائط، ومتحديًا حلفاءها في الغرب ومنافسيها في الصين.
وعلى الرغم من مرور ستة أعوام على سياسات ترمب الحمائية وحلول الديمقراطي جو بايدن محله إلا أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة استمرت ووصلت إلى ذروتها في العام الأخير لبايدن في الحكم، لكن حملة الولايات المتحدة ضد البضائع الصينية في عهد بايدن أخذت منحنى جديدا، حيث ترى إدارة بايدن أن الصين تتعمد إغراق الأسواق بمنتجات رخيصة ما يضر بالصناعات المحلية إضافة إلى اتخاذ التعريفات منحنى جديدا متعلقا بحماية الأمن القومي وبالأخص في المجالات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والصناعات الحديثة مثل الطاقة المتجددة وأشباه الموصلات والسيارات الكهربائية والبطاريات والمعان النادرة. على سبيل المثال رفع بايدن الرسوم الجمركية على واردات السيارات الكهربائية الصينية إلى 100% وذلك مقابل 25% سابقًا. المختلف في هذه الجولة هو انضمام الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في حملتها ضد الصين، حيث تجري دول الاتحاد تحقيقًا فيما يتعلق بقيام السلطات الصينية بتقديم الدعم لصانعي السيارات في البلاد، ما يساعدهم على الدخول في حرب أسعار مع منافسيهم الأوروبيين، الأمر الذي يضر بصناعة السيارات الأوروبية التي تعاني داخليًا بسبب الأزمات الاقتصادية التي تضرب دول الاتحاد.
في المقابل، الصين لن تظل صامتة على تلك الإجراءات التي تهدد صناعتها المحلية، حيث هددت بفرض رسوم تصل إلى 25% على السيارات الأوروبية والأمريكية المستوردة في خطوة مبدئية قد تتبعها خطوات أخرى ستؤدي إلى مزيد من التصارع بين مختلف الأطراف، الأمر الذي سينعكس بشكل سلبي على مستقبل الاقتصاد العالمي، حيث يؤدي اشتعال حرب التعريفات إلى هدم النموذج العالمي الذي تم بناؤه في العقود الأخيرة والقائم على أساس فكرة المنافسة والأسواق المفتوحة وضمان حرية التجارة وسهولة تدفق السلع، ومن المتوقع أن يؤدي مزيد من الإجراءات الانتقامية بين الأطراف المتصارعة إلى صدمة في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، ما سيصيب الاقتصاد العالمي بحالة من الشلل في وقت يعاني فيه أزمات متراكمة بسبب التوترات الجيوسياسية وتكاليف الاقتراض المرتفعة.
الصراع الدائر بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والصين قد يشكل فرصة مهمة لمنطقة الشرق الأوسط، حيث ستدفع التعريفات الجمركية المتبادلة والتضييقات على الشركات في الداخل إلى البحث عن مناطق جديدة للإنتاج، ففي الصين التي تحولت إلى واحدة من أهم المستثمرين في العالم في الأعوام الأخيرة، ستدفع التعريفات على السلع المصنعة داخليًا بجانب العقوبات إلى تعزيز الاستثمار والإنتاج في الخارج، الأمر أيضا ينطبق على المستثمرين الأجانب في الصين، حيث يسعون للنأى بأنفسهم عن الصراع الدائر والبحث عن وجهات جديدة لنقل الإنتاج إليها، ونظرًا للأهمية الكبيرة التي تتمتع بها منطقة الشرق الأوسط سواء كانت أهمية جغرافية أو اقتصادية إضافة إلى القوة العاملة الشابة فإنها تحتل مرتبة متقدمة لتتبوأ موقعا مهما في حركة الإنتاج وسلاسل الإمداد والتوريد العالمية في السنوات المقبلة، وستكون واحدة من أهم الرابحين من تلك المعركة.
ختامًا، يبدو أن الحرب التجارية المشتعلة أخيرا بين الولايات المتحدة وحلفائها والصين ستستمر لفترة طويلة، وستنتج عنها خسائر كبيرة للاقتصاد العالمي، وذلك لأهمية الأطراف في حركة التجارة العالمية، لكن ستعطي تلك الحرب فرصة لعدد كبير من الدول والمناطق لتحتل مكانة مهمة في مستقبل التجارة العالمية، حيث ستعيد الأطراف المتنازعة توزيع تدفقات الاستثمار الخاص بها لتشمل وجهات جديدة، يأتي في مقدمتها الشرق الأوسط الذي يتهيأ ليلعب دورا بارزا في مستقبل التجارة والاقتصاد العالمي.